زبالة بيروت

31 يوليو 2015

ناشطون لبنانيون يتظاهرون احتجاجا على أزمة النفايات (العربي الجديد)

+ الخط -
للزبالة تاريخ عميق في القدم، ارتبط بتاريخ البشر، صانعي الزبالة ومروجيها. أثبتت الدراسات الأركيولوجية أن إحدى قبائل سكان أميركا الأصليين في المنطقة التي تسمى، اليوم، كولورادو، كانت تدفن فضلاتها في مطامر تحت الأرض، ثم يتم حرقها، وذلك قبل الميلاد بستة آلاف وخمسمائة سنة. وفي أثينا الإغريقية، تم تشريع أول قانون رسمي لإنشاء مطامر لإخفاء النفايات، على أن تكون على بعد ميل واحد من حدود المدينة. وفي العهد الجديد، تم ذكر الشيول في القدس، حيث تحرق الفضلات، وقد تماهى المعنى مع معاني الجحيم والظلمة، وفكرة النزول إلى أماكن، حيث يجد الانسان نفسه في وضع أدنى من الحياة والنور في وضح النهار. وفي عام 1388، وضع البرلمان الإنجليزي أول قانون يمنع بموجبه نشر القمامة في قنوات المياه العامة والحفر المكشوفة. 
يستطيع الباحثون الاجتماعيون والأركيولوجيون والمشتغلون في الفكر والسياسة أن يجدوا الكثير حول تاريخ الزبالة وتعامل الإنسان معها، منذ وجد وحتى اليوم، فقد استخدمت الزبالة التي ينتجها الإنسان، والفائضة عادة عن حاجته، استخدامات شتى، حتى في الحروب، فأحيانا كان تكديسها في أكوام وتلال وسيلة دفاعية عن المدن والأحياء، مثل أكياس الرمل التي تستخدم في حروب المدن اليوم. وأحيانا كانت تستخدم في بعض الطقوس الدينية، لإحلال اللعنة على العدو أو الأشرار، وإرسالهم إلى غياهب الموت في باطن الأرض، حيث لا ضوء ولا شيء غير عتمة الجحيم.
ومع كل هذا التاريخ العتيق للزبالة، واختلاطه بتطور المجتمعات البشرية، دينياً واجتماعياً، في كل بقاع الأرض منذ آلاف السنين، إلاّ أن ما حدث ويحدث اليوم في بيروت، ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وفي ذروة خيلاء الإنسان، وزهوه الفارغ بالحداثة والمعاصرة والتكنولوجيا الجديدة، يستحق أكثر من دراسة سوسيولوجية وسيكولوجية وفلسفية وسياسية، هذا إذا لم ينتبه السينمائيون والفنانون التشكيليون والمغنون، لاسيما الملتزمون منهم، والمسرحيون، إلى إنتاج أعمال إبداعية تخلّد هذه الحقبة الراهنة من تاريخ المدينة، التي لم يستطع مبدع عربيّ منذ الخمسينيات أن يرتاح لو أنه لم يعش فيها أو لم يزرها.
بيروت اليوم، وهذا ليس رثاءً، وصلت إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه مدينة في أوهامها عن نفسها، وفي أوهام ساكنيها عنها. كان الجميع يعيشون الصورة التي قدمتها بيروت لنفسها، وكانت بيروت تسعى جاهدة إلى لفت النظر إلى انهيارها، ولطالما كانت تُصاب بخيبة عدم الاكتراث واللامبالاة. ولم تكن زبالة اليوم في بيروت غير امتداد تاريخي وعضوي للزبالة التي تكوّمت منذ عقود طويلة، وساهم فيها الجميع. زبالة الأحزاب التي تسعى إلى الهيمنة، وتلك التي لا تستطيع أن تسعى إلى أي شيء، وزبالة العائلات السياسية اليمينية واليسارية، المسيحية والمسلمة، المورثة والوارثة منذ أزمان طويلة، وزبالة الطائفية وزعماء الطائفية، وزبالة القوميين والأمميين، وزبالة متوهمي التفوق والتحضر، وزبالة الشغوفين الفخورين بعقليتهم الريفية الضحلة، وأولئك الواهمين بأنهم أقرب إلى مدينية نيويورك أو لندن أو باريس. الجميع خلق العفن، والجميع كان منتجاً وفياً للزبالة التي قد تأتي بالموت إلى شوارع المدينة. لم تأت الزبالة التي تنتشر في بيروت اليوم من فراغ، ولا من صراعات بين القوى السياسية المتكالبة على التسلط وإرضاء بيوت المال في عواصم المنطقة وحسب، بل من حقيقة غياب أية بنية لدولة حديثة، وفقدان أية مكونات لمجتمع مدني حقيقي، وانتفاء الرغبة في الحياة وانتشار اليأس الذي ينهش روح الإنسان، مقابل هذا الموت الطاغي في كل سلوك يومي لسكان لبنان من جميع الطوائف والأعراق.
لا براءة لأحد في قتل بيروت بالسيارات المفخخة، والطعن بالسكاكين، والقتل على شاشات التلفزة، والاغتصاب والعنصرية والفقر والجوع والفساد. الجميع متهم إلى أن تحرق الزبالة كل هذا العفن الساري كالطاعون.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.