أكثر الأدوار التي لعبها روبن ويليامز كانت كوميدية، وكان لها جمهورها لا سيما في أميركا التسعينيات. جمهور صغير مقارنة بجماهير المراهقين الخاصة بنجوم الكوميديا و"الأكشن" والخيال العلمي، لكنه جمهور وفيّ يلاحق بطله من شريط روائي إلى آخر كرتونيّ؛ يؤدي فيه صوت مارد علاء الدين.
كان وصفه بالكوميديّ يسبق أي وصف آخر، رغم أنه لم يكن ذا سحنة ساخرة وضاحكة مثل ستيف مارتن أو جايم كاري. كان هذا مشروعه على أي حال. وكان كوميدياناً بحق، مولعاً بإضحاك الناس، في أفلامه كما في مشاركاته على الشاشة الصغيرة ومقابلاته وحتى في حفلات نيل الجوائز. لكننا، رغم كل ذلك، لم نعرفه ونطبعه في القلب جيداً إلا في أدوار أخرى. في "مجْمع الشعراء الموتى" (1989) و"ويل هانتينغ الطيّب" (1997) تحديداً.
أحببناه في هذين العملين اللذين قدماه إلينا بوصفه معلّماً. مرة معلماً بالمعنى الحرفي وأخرى بشكل معنوي. أحببنا الرجل الحكيم الطيب الذي يقف إلى جانب شباب من عمرنا لديهم طموحات كتلك التي لدينا. وأحسسنا بكرمه وذكائه واختلافه لأنه أحس بأناس مثلنا وفهمنا، نحن المولعين بالشعر والمغامرات والكارهين لفروض المدرسة كما هو حال الطلاب في "مجمع الشعراء"، ونحن المغمورين الذين نعمل في تنظيف أرضية الجامعة رغم امتلاكنا لموهبة تؤهلنا للعمل مكان الأساتذة الذين تتقاطع نظراتنا مع نظراتهم المتعالية كل صباح، كما هو حال ويل هانتينغ.
أدّى ويليامز دور المعلم الطيب ببراعة وإخلاص كانا كافييْن لأنْ يفتننا ولأن نعلنه واحداً من أبطالنا. هذا ليس رأينا فحسب، بل وحتى رأي لجنة "الأوسكار" التي منحته جائزة أفضل ممثل مساعد عام 1997 عن دوره في "ويل هانتينغ الطيّب". يبقى أن الاختلاف الوحيد بيننا وبين اللجنة هو أن المحكّمين توّجوه لقيامه بعمل احترافي جيد طيلة ساعتين من الزمن وكانوا سيفعلون الشيء ذاته لو برع بالسوية ذاتها في تأدية دور سفاح أو قاتل متسلسل؛ أما نحن، فأحببناه لأنه كان شخصاً جيداً ولا بد أنه يختار هذا النوع من الأدوار لأنه كذلك. هي سذاجة شائعة في عالم السينما، لكنها تصلح في حال رجل مثله.
آخر ما وصلنا من أخباره كان عن صراعه المستمر مع الإدمان. منذ ثماني سنوات حتى أيامه الأخيرة وهو يقضي أوقاتاً في المصحات. لم يمنعه ذلك من تنفيذ بضعة أدوار بين السينما والتلفزيون. لكن، حتى في مصحّه الذي دخله مرة أخرى قبل شهر، بدا لنا أنه يحافظ على صورة ذلك المعلّم الذي عرفناها عنه. قال إنه فخور باعترافه بدخول المصح.
وإذا كان الإدمان الذي يودي بحياة شخص إلى نهايتها سريعاً، خطأ، فإن قراره وإعلانه هذا كان إصلاحاً ومحواً لذلك الخطأ وسبباً لسعادتنا، نحن الذين أحببنا أن يعود إلينا كامل الصحة ليحقق ما وعدنا به من تجسيد لشخصيات تاريخية حفرت اسمها في ذاكرة البشرية. غير أنه عاد وارتكب خطأ وحيداً بحقّنا من السذاجة مناقشته أو التفكير بإصلاحه. قد يكون محقاً في اختياره الرحيل، لكنه أخطأ بأن آلمَ كثيرين. انتحر أمس الإثنين في منزله في كاليفورنيا عن 63 عاماً.