روبرت ريدفورد يعتزل التمثيل: قرار نهائي أم استراحة مؤقتة؟

12 اغسطس 2018
تناول في أفلامه مسائل سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة (Getty)
+ الخط -
مرة جديدة، يُطرح سؤال الاعتزال المهنيّ، مع إعلان السينمائي الأميركي روبرت ريدفورد، في 6 أغسطس/ آب 2018، قراره التوقف عن التمثيل. كبارٌ في صناعة السينما يريدون انسحابًا هادئًا من المشهد الدولي، في لحظة تألّق أو مرحلة ارتباك. الأسباب وفيرة، لذا تنعدم أهميتها في مقابل الاعتزال نفسه. بعد أشهر قليلة على إعلان الممثل البريطاني دانيال داي ـ لويس قرارًا مماثلاً، إثر انتهائه من تصوير ما يعتبره "آخر فيلمٍ له"، وهو بعنوان "الخيوط الوهمية" (2017) للأميركي بول توماس أندرسن؛ يقول ريدفورد إن "الرجل العجوز والمسدس" (2018) لديفيد لوري ـ الذي يُفترض بعروضه التجارية أن تنطلق في 28 سبتمبر/ أيلول 2018 ـ سيكون "آخر فيلم له" أيضًا.

"يجب ألا يقول المرء أبدًأ... أبدًا. لكنّي توصّلت تقريبًا إلى خلاصة مفادها أن التمثيل بالنسبة إليّ منتهٍ، وأني أتوجّه إلى التقاعد لأني أفعل هذا (التمثيل) منذ بلوغي 21 عامًا". جملة واحدة تُلخِّص رغباتٍ وانفعالاتٍ وتاريخًا حافلاً بالنتاج المتنوّع والمواقف الصلبة والمواجهات الدائمة والتحدّيات العديدة. جملة واحدة تقول عمرًا مديدًا من العمل والاختبارات والتنقيب السينمائيّ في أحوال بلدٍ واجتماع وعلاقات، وفي تبدّلات عالمٍ وتاريخ وذكريات، وفي تطوّرات وانشغالات وروايات. جملة واحدة كافية، لقدرتها على اختزال سيرة رجلٍ يتفنّن في صناعة الأفلام، ويبتكر في حرفية التمثيل وأداء أدوارٍ لشخصياتٍ يبلغ الاختلاف بينها، أحيانًا، حدود التناقض الإنساني والروحي والمعرفي.
الموقع الإلكتروني لـ"إنترتاينمانت ويكلي" ينشر قرار روبرت ريدفورد، في مقالة لكاتي هاستي بعنوان: "حصريًا، روبرت ريدفورد يُعلن أنه سيتقاعد من التمثيل". لكن أليس روزنتال تستعيد، في مقالة منشورة في الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند" (7 أغسطس/ آب 2018)، قولاً له عام 2016 يعكس رغبته تلك: "أفكِّر بالانسحاب من المهنة"، مُشيرًا ـ في الوقت نفسه ـ إلى أن لديه فيلمين اثنين فقط سيُشارك فيهما: الأول مع جاين فوندا بعنوان "أرواحنا في الليل" (2017) لريتش باترا، والثاني "الرجل العجوز والمسدس"، الذي يقول عنه إنه "فيلم أخفّ"، مع كايسي آفلك وسيسي سبايسك: "مع انتهائي منهما سأقول وداعًا لهذا كلّه، وسأركّز اهتماماتي على الإخراج"، كما في مقالة لديلان ريدفورد منشورة في "مجلة ديجيتال لمركز واكر الفني" (10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016).

من مواليد سانتا مونيكا (كاليفورنيا) في 18 أغسطس/ آب 1936، يُصبح روبرت ريدفورد "نجمًا دوليًا" عام 1966 بفضل فيلمين دراميين اثنين سيكونان بمثابة لحظة تحوّل فعليّ في مساره المهنيّ: "المُطاردة" (The Chase) لآرثر بن و"هذه المُلكية مُدانة" (This Property Is Condemned) لسيدني بولاك. بعد 3 أعوام فقط، ستتعزّز سمعته الباهرة بفضل "باتش كاسيدي وساندس كيد" (1969) لجورج روي هيل. لكن هذه العناوين ـ وإنْ تؤكّد حرفيته الأدائية المعقودة على جمالية حضور ـ لن تكون وحيدة في مسارٍ تمثيلي يبدو أنه سينتهي عام 2018. فهناك "روائع سينمائية" تحرّض على سجالٍ متنوّع لمعاينتها الانتقادية أحوال أميركا وفضائحها وحكاياتها، في السياسة وعالم العصابات والتمزّقات الذاتية والروحية لأفرادٍ يعانون صدمات وقسوة.
من هذه الروائع، هناك "كلّ رجال الرئيس" (1976) لآلن ج. باكولا، و"اللدغة" (The Sting) الذي يجمعه مجدّدًا مع جورج روي هيل عام 1973، و"غاتسبي العظيم" (1974) لجاك كلايتون، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه أصدرها كاتبها الأميركي أف. سكوت فيتزجيرالد عام 1925. ثم "خارج أفريقيا" (1985) مع سيدني بولاك أيضًا، و"الهامس في أذن الحصان" (The Horse Whisperer) الذي يُخرجه هو نفسه عام 1998.
هذه نماذج لن تُلغي تلك اللائحة الطويلة من الأفلام التي يُشارك فيها كممثل، والتي يُنجزها كمخرج. ورغم أن عدد الأفلام التي يجمع فيها الإخراج بالتمثيل أقلّ من تلك التي يتفرّد فيها كممثل، إلا أن أفلامًا عديدة له تتوغّل في أحوال أميركا وارتباكاتها وخفاياها. أحد تلك الأفلام التي يجمع فيها المهنتين يحمل عنوان "أسود في ملابس حملان" ـ ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي Lions For Lambs ـ المُنجز عام 2007: مع توم كروز (في أحد أدواره القليلة جدًا التي يكشف فيها براعة أداء وجمال حضور وعمق اشتغال) وميريل ستريب. معاينة نقدية لكواليس السياسة الأميركية في حروبها العسكرية الخارجية، ولأحوال شبانٍ منجذبين إلى وطنية صارمة بسبب ترويج إعلاني رسمي لدولة تفعل عكس ما تقول، ولحالة طالبية في صراعاتها مع الذات والآخرين.
وهذا مندرجٌ في سياق التفكيك السينمائي لأحوال أميركا، تمامًا كما في "كلّ رجال الرئيس"، عن الفضيحة المدوّية المعروفة بـ"فضيحة ووترغايت" (1974)، المؤدّية إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، بعد انكشاف التجسّس السياسي على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى "ووترغايت". لكن المسألة ستأخذ بُعدًا آخر، إذْ لن يكتفي لا ريدفورد ولا باكولا بإعادة تصوير عمل الصحافيين بوب وودوورد وكارل برنشتاين (واشنطن بوست)، اللذين لهما فضل كشف عملية التجسّس، لأن الفيلم يُعرّي جانبًا من فسادٍ سياسي في بنية الإدارة الأميركية، كما في معنى العمل السياسي الفاقد أدنى حدّ أخلاقيّ.
في المقابل، يُقدِّم روبرت ريدفورد أدوارًا يُمكن وصفها بالرومانسية، ويُسحر عبرها ممثلات ومُشاهِدات ومشاهدين أيضًا. ففي "خارج أفريقيا" مثلاً، المرتكز ـ في جانبٍ منه ـ على حالة كينيا أثناء الاستعمار البريطاني عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، ينسج الصيّاد دنيس فينش هاتّون (ريدفورد) علاقة حبّ بالأرستقراطية الدنماركية كارِن كريستنز ديناسن (ميريل ستريب) شيئًا فشيئًا، مستعينًا بلباقة إنسانية لن تُخفي كثيرًا عنف مهنته في مناخٍ سياسي مضطرب.
وهذا حاضرٌ في "الهامس في أذن الحصان"، الذي يبدأ بمهمّة مستعجلة لتوم بووكر (ريدفورد)، المتخصّص بمعالجة الأحصنة، كي يُنقذ حياة المراهِقة غرايس ماكلين (سكارليت جوهانسن) من ازمة نفسية خطرة، بعد تعرّضها لحادثٍ أثناء ركوبها على حصانها المُصاب بجروحٍ حينها، والمُصاب أيضًا ومثلها بأزمة نفسية. لكن الحبّ يتسلّل إليه دافعًا إياه إلى اكتشاف أعماق والدة غرايس، آني (كريستن سكوت ـ توماس) فيُحرِّرها، بدورها، من مآزق علاقاتها بزوجها ومحيطها وذاتها.

اللائحة طويلة. اختزال سيرة مهنية ممتدة على 60 عامًا مستحيلٌ. اهتمامات روبرت ريدفورد خارج صناعة الأفلام جزءٌ من وعيه الإنساني إزاء مسائل سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة. تأسيسه "مهرجان ساندانس" عام 1985 جزءٌ من مشروعه السينمائي المفتوح على مسائل عديدة في العالم، جاعلاً إياه أحد أهم مهرجانات السينما المستقلّة.
لكن السؤال المعلَّق يبقى الأبرز: هل سيكون "الرجل العجوز والمسدس" الفيلم الأخير، فعليًا، للممثل روبرت ريدفورد؟
المساهمون