كيف وصلتُ إلى هنا؟ غادرتُ بوينوس آيريس لمّا كنت في العشرين ونيّف. أعُدّ بأصابعي: منذ سبع عشرة سنة. كثيراً ما تملَّكتني الرغبة في العودة، ولكنْ دوماً كانت تَظْهَرُ لي خطّةٌ تبدو ليَ هي الأفضل، أو كانتْ تُثير الخوف فيَّ. يقول إلياس كانيتي إنَّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو أنْ يُمَسَّ. طيِّب، إنَّ الشيءَ الوحيد الذي يُمكن أنْ يمسّكَ في الحياةِ، حقيقةً، من دون قُفّازين ولا نعْليْن مطّاطيَّيْن، هو المكان الذي نشأتَ فيه.
لا أريد أن أقول إنه لا شيءَ يَحْدُثُ للمرء في الخارج، وإنه لا يُمكنُكَ أن تكونَ سعيداً جداً هناك، أو أن تكونَ حزيناً جداً، أو أنْ تُحِبَّ، أو أنْ تعمَلَ، أو أنْ تتغيَّرَ. لكنْ في البداية، على الأقلّ، عندما تَمْضي، يكون الأمر شبيهاً بانسلاخِكَ من ذاتِك بإجازة. ستَغدو أنتَ ما تشتهيه لِذَاتِكَ. ستُجرِّبُ أقنعةَ كلِّ مُثُلِكَ، وكلّ هواجِسِك، وكلّ الأبطال الخارقين الذين هم أَهَمّ منكَ، كما تَعْلَم. لهذا، فإنّ الأشياءَ لا تَمَسُّكَ تماماً.
المِساسُ الحقيقيُّ هو الشيءُ الذي كان يُخيف كانيتي ويَفْتِنُه، وهو يَحْدُثُ عندما تَمسُّ يَدٌ ذاكَ الذي هو أنتَ من دونَ قصْدٍ. حينما تُمَسُّ حيث تكون تكاد لا تَعْرِفُ أنّ لديْكَ بَشَرَةً. لذاك السبب لا أجِدُني مُستعِدّاً لكي أستقصيَ الأمرَ، بكثير من اليقين، بما أن عندي طفلين وأنا أعْسَرُ، لا يُمكن لذاك أنْ يَحْدُثَ في مكان آخر غير مدينة مسقط رأسك.
أكتبُ هذا، وأشُكّ في الحين. ألنْ يمسَّني الأشخاصُ الذين تعرَّفتُهم هذه الأعوام؟ تأتيني ومضةٌ بين كثيرات. أنا في باريس الآن، وعمري عشرون سنة. الحياة طيِّبة. تتوزَّعُ الحياةُ بين مجموعاتٍ صغيرة أو خِزانات متصلة في ما بينها إلى حد ما، مثلما الأمرُ في لعبة إِسْتَانْثِيِرُو [لعبة مونوبولي في نسخة أرجنتينية].
هنا مجموعة مانُو: حانةُ عند جورج، جلسات تمتدّ أحياناً طيلةَ الليل، كي يُتَرجَمَ الأدبُ الأرجنتيني إلى الفرنسية (نترجم قصص أَبلارْدُو كاستِييُو ونُنظِّمُ قراءاتٍ)، تجمُّعات في حيِّ لِزَالْ كي نلعب تحت مِدْفآتِ فُطُر اللَّاطُون، وخلف ظُلّاتِ البلاستيك التي تحمينا من البرد قليلاً.
مانُو طويلةٌ بعُنُق طويل، وبشَعَر مُجعَّد ومقصوص، من صنف طَبق طائر. إنها الألطف والأكثر استياءً، وتسعى دوماً إلى أن تتخلى عن جُورْدِي، خطيبِها الكَتلانيِّ، من دون أنْ تُفلح في ذلك. وتكون هنالك موري، كذلك، خطيبتي السابقة، التي وضعتْ إعلاناً في مجلّة، لأنها ترغَبُ في أنْ تكون لها تجربةٌ سحاقية.
وهنالك اليابانية كِيْكُو، التي ترشف القهوة مثل دُمية، دون أنْ تُحرِّكَ شفتيْها. والسويدي إِرْلانْد، وهو الوحيدُ الذي لم يكن أرجنتينيًّا، وقد أفلحْتُ في أنْ أحوِّلَه إلى متعصِّب لِشارْلي غارْثِيّا. إنها مجموعةٌ تلعب كلَّ الأوراق، إلى حد ما، تُراهن على المستقْبَل، الذي يعمل تحت علامةِ الوقتِيِّ والبراءةِ، ويَعيش في حساءِ الاختلاط الفاتر الذي يحميها (يحمينا) من كلِّ شرّ.
لا أتذكَّر متى تعرَّفتُ إلى خورْخي؛ أكيدٌ في منتصف ذلك العام الثاني، كان جاري في الطابق الأعلى، قصّ عليّ خورخي حكايةً مؤثِّرة عن أبيه. كانتْ له علاقة صعبة مع أبيه، الذي كان يعيش في سان لويس وانتهى منتحِراً. حينئذ، عمل أحدُ أبناءِ الأعمام على إحراق المتوَفّى اتّباعاً لوصيَّتِه.
كان خورخي وقتَها محامياً يشتغل في مكتبة الكونغريس، وهو نفسُه كان على حافّة الانتحار. كان يرغب في كتابة الشّعر، وألا يعمل محامياً. كان يَشْعُرُ أنّه قد أنفق شبابَه الأوّل هباءً دون أنْ يغنَمَ شيئاً. وقد ذُكِر ذاك َعرَضاً، وكان قولاً سائراً بيننا. "نحن هنا، والسّمكُ لم يُبَعْ".
لمّا توطَّدتْ صداقتُنا، كانت لنا صيغة في التخاطب شبيهة بالتنادي إلى المُبارزة، أي بالتخلّي عن تزجية الوقت، والانكباب على كتابة أعمالنا الأدبية الكبرى، كنا نقول ذلك دوماً. إنها، ما أتذكَّرُه الآن، نسخة "رُعاةُ أرْكادْيا" لفِرجيل. كان خورخي ينزع إلى التحدُّث هكذا؛ بنبرة تعبيئيّة مُضجِرة. "يا للذة الفواكه، بوسعي ألا آكلَ طيلةَ اليومِ شيئاً عدا الفواكه". و"لم يبق لي شيءٌ لآكُلَه، وكانت كلُّ المَحلات مقفلة، ولم يبق لي سوى مُكَعّبات كي أُحضِّر الحساء، هكذا هيَّأت طنجرةً كاملة من الحساء، واحتسيْتُها كاملةً".
"نحن هنا، والسَّمكُ لم يُبعْ". كان يُشبه ملاكماً هاوياً يُنازل الظِّل. وحينما كان يَسْكتُ عنه الغضب يُفاجئك بقهقهة. لكنْ لِأَلُفَّ حول الموضوع. قُلْتُ إنّ أبَ خورخي انتحر، وبما أنّ لا أحَدَ من إخوتِه رغِبَ في أن يعتني بالمَسألة، فقد استقلَّ حافلةً خورخي وذهب إلى سان لْويس بحْثًا عن رماد الأب.
في هذا الجزء من الحكاية، وبينما كان خورخي يحكيها لي، شرعْتُ أرى كلَّ شيء؛ الليلَ، والطريق، والنجومَ الفاتنة. عاد خورخي إلى بوينوس آيريس بِكيس "أديداس"، وبداخله عُلبة تحوي رماد أبيه. ولمّا طُلِبَ منه أنْ يضع الكيسَ في مقصورة الأمتعة اغتاظَ. كيف له أن يضع أباه مع الحقائب؟ وحدث الشيء نفسُه في الحافلة. كانت عجوز في المقعد المجاور تتحدَّث بسوء عن شخصٍ، عن كنَّتِها بالتحديد، عن ابنتِها، وفي كل الأحوال عن أحَدِهم، وبنبرة خسيسة تُميِّزُ أولئك الذين يزرعون الحقد كما لو كانوا سيعيشون أبَدَ الدَّهر.
فقال لها خورخي: "سيدتي، احترمي الغائبين، فهنا في كيسي أحْمِل أبي. وبوصوله إلى حيّ ريِتِيرُو (ولو أنّه يتهيَّأ لي أني أرى حديقةً، مع أنَّ خورخي في هذا الجزء من الحكاية كان في حيِّ لاشاكاريتا) أَحَسّ أنه لا قدرةَ له على التحمُّل، وأنّ النجوم اللعينة تنغّص عليه العيش، وأنّ الحتمية اللعينة، والتشابكَ الملتهب للجينات يُحوِّلُنا إلى عرائس من قصب لمصائر آبائنا، وآباءنا إلى عرائس لمصير آبائهم.
إنها أُمورٌ تُنغِّص عليه العيش. حينئذ، شرع يُكلِّمُ الكيسَ. "أيها العجوز، أحملُكَ في كيس". واستحضرَ الخصومات التي كانت بينهما، بما في ذلك المرّةَ التي كادا يشتبكان فيها باليديْن. وشعَرَ بحنان كبير، وبشيءٍ لم يكنْ سلاماً، لكنّها في تلك اللحظة كانت ستصلُحُ حتى يَحُلَّ السلام، فقال مجدَّداً بصوت مسموع: "أيها العجوز، كم من شجار دار بيننا، ومع ذلك أحملكَ في كيس"، وأسبوعان بعد ذلك، أو بوقت غير محدَّد، تخلّى عن عمله في الكونغريس، وركب الطائرة إلى فرنسا.
وفي نهاية ذلك العام، بدأ خورخي يخرج مع امرأة أستراليّة، فبقيتُ وحدي نوعا ما. كانت مجموعة مانُو قد تشتَّتْ وقتئذ. أفهمْتُ خورخي المشكلَ الذي كان يؤلمُني، ذات مساء، كان قد نزل إليَّ في غرفتي ليشرب القهوة رفقتي، وحدَّثني عن الأسترالية: "ما حدَث حتى تتنهَّد؟" قلتُ له: "لا شيء، هي لحظة كآبة جيليَّة." الظريف في الأمر هو أنه لم تكنْ قد مرَّتْ خمسةُ أيام بعْدُ حتى إني كنتُ أحكي لخورخي أنَّ لديَّ مشكلة مع امرأة.
كنتُ قد تعرَّفتُها عند المنعطف القريب من البيت. كنت أقرأ رسالةً، فرَصدْتُ بطرف العين ساقيْن لافتتيْن في طاولةٍ أخرى. تانك الساقان نهضتا، وعند مرورهما بي تركتا على الطاولة وُريْقة تقول: لديك ابتسامة جميلة (عندما تكون تقرأ). هل يُمكنني أن أراها ثانية؟، ورقْمَ هاتف. بدا لي صوتُها لمّا هاتفتُها صوتَ قطة التقيْتُها. "لم أعتقدْ أنك ستهاتفني... أنتَ جريءٌ جداً..." إلخ.
صوتُ ممثلّة إباحية ناعمٌ. كان الانطباعُ أكثرَ سوءً، كانت شقراءَ مُفضَّضة، بشَعَر مُقصَّب على غرار فرقة هيفي heavy في عَقْدِ الثمانينيّات. وكانت الكلمات كأنها تَستظْهِرُها، والصَّوتُ صوتَ ممثِّلةٍ سيئة. أحسسْتُني غريبا جدا، كما لو أني كنتُ أُنجِزُ مُزْحةً بكاميرا خفيّة. إضافةً إلى أنها كانت قد أحضرتْ صُحبتَها صديقةً. لم تكن الصديقة تتحدَّث.
الاثنتان كانتا بطريقة داعرة. إحداهما، ولا أتذكُّر أيَّهما، كانت سُرَّتها معروضة في مهبّ الريح. وغني عن القول أنّ تاتِيَانَا (شقرائي) أنبأتني أنهما إنسانتان طبيعيّتان جدا، وصادقتان، وأن الإثارة يلزم أن تكون شيئا عفويّا في حِلٍّ من القيود، وأنني، إنْ شئْتُ، يُمكنني الذهابُ إلى بيتها الليلةَ، في حيِّ سانْ دُونيس، وأقضي الليلَ معهما. قال لي خورخي مُنتبها "لكنْ هنالك يبزُغُ العالم... وهما غبيّتان، إنه فخّ، ستقتُلانك." أنا أيضا بدا لي كلّ شيء غريبا، لكني مضيْتُ. وكانت تلك، في الحقيقة، بدايةَ إحدى المراحل الأكثر غرابةً في حياتي.
يبدو أن هذا يطول قليلاً، وأنه قد حان وقتُ الذهاب لإحضار الأطفال من المدرسة. وبعْدُ، سأرى إنْ كانتْ لا تزال لديَّ رغبةٌ لتذكُّر تلك المرحلة.
Gonzalo Garcés هو أحد كتّاب الموجة الجديدة في الأرجنتين، من مواليد 1974. أصدر خمسة أعمال روائية، إلى جانب كتابات نقدية وقراءات جديدة للنسوية، إضافة إلى مقالات أخرى تتناول الذكورية وقضاياها. أصدر روايته الأولى عام 1997 وكانت بعنوان "ديسمبر" ثم أتبعها بـ "النزقون" (2000) والتي حصل عنها على جائزة "بيبليوتيكا بريف"، و"المستقبل" (2003) و"خوف" (2012) و"رجل متردد" (2014).
* ترجمة عن الإسبانية: مزوار الأدريسي