لم تكن ردة الفعل التونسية على الهجوم الذي استهدف حافلة للأمن في شارع محمد الخامس وسط العاصمة، يوم الثلاثاء الماضي، كما كانت بعد هجومي متحف باردو وفندق سوسة، إذ شكّل هجوم "الثلاثاء الأسود" نقطة فارقة وسبباً واضحاً في تحوّل جذري جعل مؤسسات الدولة التونسية تنتفض، وتعلن بجدية واضحة بداية حربها الفعلية على الإرهاب.
ولم يُخفِ رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، ولا الأحزاب السياسية، أن الضربة كانت موجعة وأن دلالاتها كانت تعني أن تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) قرر تحويل المعركة إلى الشارع التونسي، وفي قلب العاصمة على بعد عشرات الأمتار من وزارة الداخلية، وكان يستهدف "ضرب أركان الدولة" وفق تعبير الصيد، مستهدفاً أهم مؤسساتها، رئاسة الجمهورية.
واعتبر وزير الدفاع الوطني، فرحات الحرشاني، أمس الأول، في مجلس النواب، أن الاعتداء الإرهابي الجديد "رسالة جديدة من الإرهابيين، يجب فهمها بشكل جيد". وأضاف في مستهل نقاش ميزانية الوزارة أمام لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات المسلحة، أن "هذه الرسالة تختلف عن رسالتي هجومي باردو وسوسة، والهجوم استهدف الدولة وسلطاتها في قلب العاصمة، غير بعيد عن مبنى وزارة الداخلية، وهذا أمر يجب أن يعيه الجميع، وإن لم يتم استيعابه فستكون الأمور كارثية في المستقبل"، وفق تعبيره.
كما نقلت وكالة الأنباء التونسية عن الوزير قوله: "إن الحرب على الإرهاب تتطلب إجراءات استثنائية، مضيفاً "نحن في حرب على الإرهاب ولا يجب التقليل من شأن هذه الحرب والأمر يتطلب وحدة مقدسة بين مكونات الشعب". وانتقد الحرشاني تراخي بعض مكونات المجتمع المدني والأحزاب وبعض وسائل الإعلام، معتبراً أن بعضها "غير منخرط في مكافحة الإرهاب والحرب عليه بالشكل الكافي".
وعلى الرغم من أن الهدف كان بث الرعب في التونسيين عبر استهداف منطقة حيوية شديدة الحساسية، إلا أن رد الفعل الشعبي كان استثنائياً، إذ توجّه مئات التونسيين إلى مكان التفجير بعد لحظات بعد وقوعه، فيما استمرت حياتهم عادية في اليومين التاليين. كما جاء موقف الدولة حاملاً جرأة افتقدها بعد هجومي سوسة وباردو، عبر سلسلة من القرارات التي أكدت أن تونس قررت بدورها خوض الحرب بضراوة وبكل الإمكانيات المتاحة ضد من قرر استهدافها، والشروع فيها فوراً ومن دون انتظار. وتعكس سلسلة القرارات، أيضاً، أن الدولة التونسية قررت إعادة ترتيب أولوياتها بجعل حربها على الإرهاب على رأس تلك الأولويات والتوجّه مباشرة إلى مرحلة التنفيذ.
وأظهرت قرارات المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي ترأسه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن الحكومة عازمة على أخذ الأمور بجدية كبيرة عبر تنبيه الجميع أن قانون الإرهاب سيُطبق بكل حذافيره، وأن حظر التجول سيطبق بكل صرامة، وهو أمر مغاير لما حدث من تساهل في خصوص تطبيق الطوارئ بعد هجوم سوسة، يُضاف إليه حظر التجول ليلاً، الذي يتيح فرصة استرداد الأنفاس بالنسبة للأمنيين، ويمكّن في الوقت ذاته من إنجاز المداهمات الليلية في ظروف أمنية جيدة، ويقلل من التحركات وبالتالي المخاطر على امتداد ثماني ساعات.
وأعلن مجلس الأمن الأعلى بكل وضوح "إقرار الحرب الشاملة ضدّ الإرهاب وتحمّل الجميع مسؤوليته في خوض هذه الحرب"، عبر سلسلة من القرارات الموزعة على أكثر من جهة، أولها "تفعيل قانون الإرهاب في أسرع وقت ممكن"، الذي تمت المصادقة عليه، منذ شهر أغسطس/آب، ولم تصدر أوامره التطبيقية إلى الآن.
الدولة التونسية قررت، بعد ما اعتبره عدد من الأحزاب تساهلاً مع المتشددين، تضييق الخناق وتحديد تحركاتهم وتشديد المراقبة عليهم من خلال تكليف وزير الداخلية والمحافظين بالمراقبة الإدارية لكل من له شبهة الإرهاب. وصدرت بالفعل دفعة أولى من 149 قراراً لتفعيل المراقبة الإدارية على الأشخاص المشتبه بهم في قضايا إرهابيّة، كما تم إقرار إجراءات عاجلة، لم يعلن عن تفاصيلها، في حق العائدين من بؤر التوتّر في إطار قانون الطوارئ، الذي يتيح صلاحيات خاصة للدولة في خصوص كل المشتبه بهم.
اقرأ أيضاً: "داعش" يتبنى تفجير تونس والحكومة تغلق حدودها مع ليبيا
ودعا مجلس الأمن الأعلى، السلطات القضائية للإسراع في البت في قضايا المتهمين بالإرهاب، التي يبلغ عددها حوالي 1300 قضية، والموقوفون فيها لم تتم محاكمتهم بعد، وتريد الدولة أن تبعث برسالة واضحة للإرهابيين أنها لن تتسامح مع كل من ثبت تورطه، خصوصاً أن محاكمتهم ستتم على أساس قانون مكافحة الإرهاب الذي ينصّ على أقصى العقوبات على هؤلاء.
وجاء قرار إغلاق الحدود البرية مع ليبيا لمدة 15 يوماً، مع تشديد المراقبة على الحدود البحرية والمطارات، واتخاذ قرارات تتعلق بتحديد وضعية المقيمين الأجانب، في إطار حملة وصفها رئيس الحكومة بـ"الواسعة" لحصر عدد هؤلاء وظروفهم ومهامهم وأسباب وجودهم في تونس، والتعرّف على هوياتهم وبلدان إقامتهم وبالتالي تحديد تحركاتهم وفهمها ومعرفة إذا ما كانت سياسية أو حتى أمنية.
وكانت تقارير متعددة لمراقبين أشارت إلى أن تونس أصبحت فضاءً مفتوحاً، من دون مراقبة، للأجانب من جنسيات متعددة، وأن من بينهم من يتولى مهمات مريبة قد يكون بعضها ذا صبغة استخباراتية أو حتى إرهابية. ولا يشمل هذا القرار اللاجئين الليبيين وحدهم، وإنما سيُعمم على كل الأجانب، من دون أن يعني تراجعاً في استضافة العائلات الليبية، ولكن الإجراء يهدف إلى توضيح المشهد الجغرافي الكامل، وفهم كل التحركات وتحديدها.
غير أن الحكومة تدرك أن مهاماً كبيرة ومتعددة وسريعة بهذا الشكل تستوجب تعبئة مادية استثنائية، وربما تدعو إلى مراجعة قانون المالية الذي بدأ، أمس الخميس، عرضه على مجلس النواب. وأعلن مجلس الأمن الأعلى القيام بـ3 آلاف تطويع جديد في وزارة الداخلية و3 آلاف تطويع في الجيش عام 2016، على الرغم من أن وزير المالية كان قد أعلن سابقاً عن ضعف هذا العدد. ولم يبيّن القرار إذا ما كانت هذه الأعداد ستُضاف إلى المقترح الأصلي أم بديلة منه. ولتعبئة موارد مادية إضافية جاء القرار بـ"تفعيل الصندوق الوطني لمقاومة الإرهاب لدعم إمكانيات الأمن"، وهو مفتوح أمام المواطنين والمؤسسات التي يمكنها التبرع له والإسهام في تمويله، من أجل إيجاد تمويل إضافي خارج الميزانية للجهود الأمنية.
وبعد المواجهات التي جرت بالقرب من سيدي بوزيد بعد اغتيال راعي الأغنام، ولخنق المجموعات الإرهابية المتحصنة بالجبال، خصوصاً بعد محاولتها ترهيب سكان القرى المجاورة، ولقطع طريق الإمدادات إليها، أقر المجلس الأعلى وضع برنامج خاص لتشغيل الشباب في المناطق الحدودية، وخصوصاً في المناطق الجبلية التي يتحصن فيها الإرهابيون. وقال الصيد أمام البرلمان، إن هناك برنامجاً سيبدأ تنفيذه، بداية الأسبوع المقبل، لإيجاد حلول ظرفية للشباب في تلك المناطق وتوفير العمل لهم واستقطابهم باعتبارهم الدرع الأولى لمكافحة الإرهاب، وإمكانية تطويعهم في العمل الأمني أو حراسة الغابات، وهو ما يمكن أن يقلص من أسباب الفقر التي قد تجعل بعضهم يستجيب لإغراءات الإرهابيين الذين يملكون إمكانيات مادية كبيرة.
وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات تبدو هامة جداً وجديدة، وتعكس تحوّلاً نوعياً في تعامل الدولة مع الحرب متعددة الجبهات التي فتحتها المجموعات الإرهابية على تونس، ومن بينها الفضاء الإلكتروني (تقرر أيضاً تكثيف حجب المواقع التي لها صلة بالإرهاب)، فإنها تحتاج إلى تعبئة عامة و"وحدة مقدسة"، تدرك فيها الأحزاب والمنظمات والمواطنون، أن الخطر كبير، وأن الأولوية، في هذا السياق، ينبغي أن ترتقي فوق المزايدات الحزبية. وفيما تنخرط تونس في الحرب على الإرهاب، يبقى السؤال قائماً عن حقيقة الدعم الذي تتحدث عنه كل الجهات الدولية، لدعم تونس في حربها من أجل إنقاذ نموذجها الديمقراطي.
اقرأ أيضاً: تونس: حزام ناسف و"إرهابي" وراء تفجير حافلة الأمن الرئاسي