"المول" ليس مجرد مجمّع تجاري، فعلاوة عن كونه اقتراحاً معمارياً حديثاً للتسوّق والتبضّع، فهو يغيّر أسلوب الحياة المدينية برمتها. يعيد تشكيل مفهوم السوق، ومعه صلات الناس بالمدينة وأماكنها العامة، كما سلوكياتهم وتدبير معيشتهم.
في دول الخليج العربي، يبدو "المول" هو قلب المدينة النابض، مركزها الإجتماعيّ الأوّل وفسحتها الضرورية للتنفّس والتواصل وشراء الحاجيات وتزجية الوقت. فالمناخ القاسي هناك جعل من "المول" أفضل صيغة ممكنة لتشجيع الناس على الخروج من منازلهم، والإستئناس بهذا السوق البديل، المكيّف والنظيف والآمن من الغبار أو الحرّ أو الريح. كلّ شيء هنا، والأهم كل الفرجة متوفرة، كل إغراءات الشراء والتبضع، وكل وسائل الترفيه وأماكن الراحة والمقاهي والمطاعم، وكل ما يرضي أفراد الأسرة.
يمكن القول إنّ المجتمعات الخليجية باتت تؤلّف حياتها في "المول"، فهو المكان الأوّل، ما أن يغادر أحدهم المنزل أو المكتب. هنا تتشكّل الحياة الإجتماعية ومظاهرها. وفيه يتمرأى المجتمع، أحواله ومزاجه، خصوصاً الشبّان ثم النساء اللواتي يجدن فيه "الخارج" المتاح بلا شبهات، ويجدن فيه إشباعاً لاستعراض النفس. وهو للشبّان الفضاء الواسع للّهو والتعارف.
واقترن "المول" بظهور ما قد نسمّيه الشره الإستهلاكي، والهوس باقتناء الأشياء وشراء كلّ ما هو جديد. البذخ والإنفاق البالغ هو نتيجة هذه الصلة الحميمة بين "المول" وفكرة الخروج من المنزل.
ثم إنّ نمط الإستهلاك الفائق هذا سرعان ما تحوّل إلى وسيلة للتشاوف الإجتماعي وصورة للتنافس على مظاهر التفوق أو البحبوحة أو الترقّي أو برهاناً على الكرم والبذخ، يدعمها فيض من الضغوط الإعلانية التي تشجّع على الاستهلاك، إلى حدّ أن أصبح "التسوّق في المول" هو الطقس الخليجي الأوّل.
لكنّ "المول" في مصر يلعب دوراً مختلفاً، فهو أشبه بالنادي الحصري الذي ترتاده فئة اجتماعية تسعى لإعلان انفصالها عن "العامة" والشارع والأسواق، المكتظّة والفوضوية. "المول" هو امتياز طبقي أوّلاً، كما هو انحياز لقيم حديثة غربية، تبتعد قدر الإمكان عن الحياة التقليدية المتزمتة أو الفقيرة. مكان لنخبة مقتدرة تأنف الفضاء العام الصاخب.
و"المول" المصري هو رمز سياسي لمؤيّدي "الانفتاح" والإختلاط وحديثي النعمة، وللمنجذبين إلى الليبرالية الإجتماعية، أو حتّى للذين عادوا من اغترابهم في دول الخليج ليستأنفوا في "المول" المصري ما اعتادوه في الرياض أو الكويت أو دبي. وفيما أسواق القاهرة العريقة يوغل فيها الإهمال والتهالك، يبدو بريق "المول" لا يقاوم، بوصفه ملاذ أحلام العيش الرغيد.
في دمشق، وعند افتتاح "المول" التجاري الأوّل في العام 2000، بدا وكأنّ حدثاً سياسياً هو الذي وقع. إنّه أشبه بتدشين عهد سياسي جديد، يطوي صفحة "البعث الإشتراكي" والاقتصاد الموجّه. ففي هذا العام مات حافظ الأسد، وجاء الإبن مع وعود بالانفتاح والإصلاح. ظهر "المول" في هذه اللحظة تماماً كأنه ترجمة أمينة للتحول السياسي، حينها كتب روائي سوري عن الافتتاح: "صدمة بصرية تتماهى مع العولمة". فما كان مجرد اقتراح تلفزيوني يتفرج عليه المواطن السوري، بات هنا في قلب عاصمته.
لكنّ "المول" السوري امتاز بكونه أول استعراض لجامعي الثروات من الأقلية المحيطة بالسلطة والمنتفعين منها. فهؤلاء كانوا عادة يمارسون بذخهم وترفهم واستهلاكهم خارج سوريا، ثم اندفعوا في الفجور الاستهلاكي، الذي كان سبباً من بين آلاف الأسباب لنقمة الشعب السوري على نظام النهب والإفقار والتسلط.
مع وعود "إعادة الإعمار" في أواسط التسعينات، شهدت بيروت افتتاح سلسلة من "المولات" التي ستلبّي وتطوّر الحياة الإستهلاكية والتجارية لطبقة متوسّطة يُعاد ترميمها وتوسيعها بعد الحرب، وتساهم في إعادة المدينة إلى خارطة السياحة الإقليمية والعالمية. كان "المول"، كاقتراح عمراني جديد، يوحي للبنانيين أنّهم يستأنفون عولمة انقطعوا عنها في منتصف السبعينيّات، وأنّهم يدخلون في عهد البحبوحة مجدداً. إنّه انتصار لاقتصاد السوق الذي كان لبنان من أوائل الدول التي تبنّته.
خلاصة القول إنّه من مولات دبي الأسطورية إلى مولات إربيل المزدهرة، يبدو أنّ الحياة الإستهلاكية تستهلكنا، وتهلك معها ما تبقى من ألفة المدينة المفتوحة على الهواء الطلق والأرصفة وحميمية الدكاكين والزواريب وحرية التجوّل والتلقائية.
في دول الخليج العربي، يبدو "المول" هو قلب المدينة النابض، مركزها الإجتماعيّ الأوّل وفسحتها الضرورية للتنفّس والتواصل وشراء الحاجيات وتزجية الوقت. فالمناخ القاسي هناك جعل من "المول" أفضل صيغة ممكنة لتشجيع الناس على الخروج من منازلهم، والإستئناس بهذا السوق البديل، المكيّف والنظيف والآمن من الغبار أو الحرّ أو الريح. كلّ شيء هنا، والأهم كل الفرجة متوفرة، كل إغراءات الشراء والتبضع، وكل وسائل الترفيه وأماكن الراحة والمقاهي والمطاعم، وكل ما يرضي أفراد الأسرة.
يمكن القول إنّ المجتمعات الخليجية باتت تؤلّف حياتها في "المول"، فهو المكان الأوّل، ما أن يغادر أحدهم المنزل أو المكتب. هنا تتشكّل الحياة الإجتماعية ومظاهرها. وفيه يتمرأى المجتمع، أحواله ومزاجه، خصوصاً الشبّان ثم النساء اللواتي يجدن فيه "الخارج" المتاح بلا شبهات، ويجدن فيه إشباعاً لاستعراض النفس. وهو للشبّان الفضاء الواسع للّهو والتعارف.
واقترن "المول" بظهور ما قد نسمّيه الشره الإستهلاكي، والهوس باقتناء الأشياء وشراء كلّ ما هو جديد. البذخ والإنفاق البالغ هو نتيجة هذه الصلة الحميمة بين "المول" وفكرة الخروج من المنزل.
ثم إنّ نمط الإستهلاك الفائق هذا سرعان ما تحوّل إلى وسيلة للتشاوف الإجتماعي وصورة للتنافس على مظاهر التفوق أو البحبوحة أو الترقّي أو برهاناً على الكرم والبذخ، يدعمها فيض من الضغوط الإعلانية التي تشجّع على الاستهلاك، إلى حدّ أن أصبح "التسوّق في المول" هو الطقس الخليجي الأوّل.
لكنّ "المول" في مصر يلعب دوراً مختلفاً، فهو أشبه بالنادي الحصري الذي ترتاده فئة اجتماعية تسعى لإعلان انفصالها عن "العامة" والشارع والأسواق، المكتظّة والفوضوية. "المول" هو امتياز طبقي أوّلاً، كما هو انحياز لقيم حديثة غربية، تبتعد قدر الإمكان عن الحياة التقليدية المتزمتة أو الفقيرة. مكان لنخبة مقتدرة تأنف الفضاء العام الصاخب.
و"المول" المصري هو رمز سياسي لمؤيّدي "الانفتاح" والإختلاط وحديثي النعمة، وللمنجذبين إلى الليبرالية الإجتماعية، أو حتّى للذين عادوا من اغترابهم في دول الخليج ليستأنفوا في "المول" المصري ما اعتادوه في الرياض أو الكويت أو دبي. وفيما أسواق القاهرة العريقة يوغل فيها الإهمال والتهالك، يبدو بريق "المول" لا يقاوم، بوصفه ملاذ أحلام العيش الرغيد.
في دمشق، وعند افتتاح "المول" التجاري الأوّل في العام 2000، بدا وكأنّ حدثاً سياسياً هو الذي وقع. إنّه أشبه بتدشين عهد سياسي جديد، يطوي صفحة "البعث الإشتراكي" والاقتصاد الموجّه. ففي هذا العام مات حافظ الأسد، وجاء الإبن مع وعود بالانفتاح والإصلاح. ظهر "المول" في هذه اللحظة تماماً كأنه ترجمة أمينة للتحول السياسي، حينها كتب روائي سوري عن الافتتاح: "صدمة بصرية تتماهى مع العولمة". فما كان مجرد اقتراح تلفزيوني يتفرج عليه المواطن السوري، بات هنا في قلب عاصمته.
لكنّ "المول" السوري امتاز بكونه أول استعراض لجامعي الثروات من الأقلية المحيطة بالسلطة والمنتفعين منها. فهؤلاء كانوا عادة يمارسون بذخهم وترفهم واستهلاكهم خارج سوريا، ثم اندفعوا في الفجور الاستهلاكي، الذي كان سبباً من بين آلاف الأسباب لنقمة الشعب السوري على نظام النهب والإفقار والتسلط.
مع وعود "إعادة الإعمار" في أواسط التسعينات، شهدت بيروت افتتاح سلسلة من "المولات" التي ستلبّي وتطوّر الحياة الإستهلاكية والتجارية لطبقة متوسّطة يُعاد ترميمها وتوسيعها بعد الحرب، وتساهم في إعادة المدينة إلى خارطة السياحة الإقليمية والعالمية. كان "المول"، كاقتراح عمراني جديد، يوحي للبنانيين أنّهم يستأنفون عولمة انقطعوا عنها في منتصف السبعينيّات، وأنّهم يدخلون في عهد البحبوحة مجدداً. إنّه انتصار لاقتصاد السوق الذي كان لبنان من أوائل الدول التي تبنّته.
خلاصة القول إنّه من مولات دبي الأسطورية إلى مولات إربيل المزدهرة، يبدو أنّ الحياة الإستهلاكية تستهلكنا، وتهلك معها ما تبقى من ألفة المدينة المفتوحة على الهواء الطلق والأرصفة وحميمية الدكاكين والزواريب وحرية التجوّل والتلقائية.