ذكرى نجيب محفوظ .. الثورة رواية أجيال

30 اغسطس 2016
تمثال نجيب محفوظ في القاهرة، 2011، تصوير: مصعب الشامي
+ الخط -
بعد "ثورة يونيو 52"، توقّف نجيب محفوظ (1911 – 2006) عن الكتابة بشكل غامض. لقد تحدّث بعد ذلك بوقت عن تفكيره جدّياً في الانقطاع عن التأليف، وبرّر توقفه بأنه أحسّ بالإرهاق بعد انتهائه من الثلاثية، وأنه شعر بأنه استنفذ كامل طاقاته في الرواية التي يكاد ينحصر تمثّلها في المشهد العربي وقتها في شكلها الاجتماعي والواقعي.

ألقى أيضاً بتلك الحُجّة (الماكرة) التي رفعها تبريراً لتوّقفه، بأن الثورة حقّقت أحلام الكتابة فلم يعد يجد جدوى من مواصلة التأليف، ففكّر في السينما كمَخرَجٍ من التوقف الإبداعي النهائي. غير أن صاحب "القاهرة الجديدة" عاد بنفَسٍ ثان وثالث وشهيّة كتابةٍ أعلى، وقدّم ما هو أفضل وأنقى منذ أن أخذ مسافة عن "الحدث الزمني" للثورة.

هكذا، فإننا حين نتحدّث عن توقّف محفوظ عن الكتابة زمن الثورة، فنحن ننظر للأمور من موقع ميكروسكوبيٍّ آنيّ. ومنذ أن نأخذ مسافة أبعد لنرى الصورة كاملة، سنجد أنها مجرّد فاصل جعل منه الكاتب أرضية لترتيب الأوراق ووضع إستراتيجيات مواصلة المشوار، وربما حدث ذلك في نفسه بعفوية من دون تخطيط، وبالتالي لا يمكن تعميم حالة توّقف بأنها نهاية مشوار أو تعثر خطير.

تمرّ اليوم عشر سنوات على رحيل صاحب "اللص والكلاب". من 30 آب/أغسطس 2006 إلى 30 آب/ أغسطس 2016، تغيّرت أشياء كثيرة. في منتصف المسافة أتت "ثورة" جديدة في مصر وأحدثت ما أحدثت من اهتزازات في المؤسسات والنفوس والجو العام.

حكاية نجيب محفوظ مع الثورة تحضر كخلفيةِ لوحةٍ في واقع اليوم. إننا ونحن نعيش هذا الواقع، محكومون بالنظرة الميكروسكوبية للأحداث، وفي هذا الواقع ليس نادراً أن تتصاعد تلك المقارنات بين ما قبل وما بعد "الثورة"، وتلقى أحاديث عن انقطاعات في حبال الإبداع وهبوط حاد في الإنتاج الثقافي والفني، تماماً كما يحدث ذلك مع المؤشرات الاقتصادية، وبعدها يجري القفز بسرعة على استنتاجات تنتصر إلى الماضي.

هذه المقارنات ليست في النهاية سوى واحدة من وسائل التكبيل، بضعها مقصود وبعضها عفوي، تأتي كجزء من صراعات الأجيال والامتيازات في مشهد ثقافي، وفي سياق حسابات التموقع السياسي والاجتماعي. ولعل رفع يافطة تقول بأن الثورة (2011) لم تأت بشيء يصنّف في خانة الإيجابيات وأنها مجرّد منحدر ثقافي وأخلاقي، هو كمن يقول بأن نجيب محفوظ انتهى في 1952.

الثورات زمن مفلت. وبالنسبة إلى كاتب مرتّب ودقيق مثل صاحب "الحرافيش" فهي تضرب هدوءه وطقوسه، لكن بعد فترة هضمٍ لمتغيراتها استطاع أن يحوّلها إلى واقع قابل للسيطرة الذهنية وعرف كيف ينسج من أليافها مشروعاً بمذاقات أخرى ليقطَع مسافة جديدة في "أسطورته الشخصية".

ما ينطبق على العقل الخاص للكاتب، قد ينطبق على العقل الجمعي لجيل. ففي بطن هذا الاهتزاز الثقافي الذي تعيشه المنطقة ثمة ميكانزيمات ضمنيّة تشتغل، لا تحتاج كي نراها سوى الابتعاد مسافة لا يمنع من قطعها إلا عاقدي المقارنات الظالمة ورافعي الشمّاعات وصنّاع الأصنام (محفوظ من بين من صنعوا لهم صنماً). هؤلاء هم من يتعهّدون بجعل الثورة حفرة يسقط فيها الجميع.


دلالات