قبل رحيله، طلب فرانز كافكا من صديقه ماكس برود أن يُتلف مخطوطاته. غير أن الأخير فعل أكثر من الحفاظ عليها، إذ سرعان ما بدأ في نشرها، ثم جعل من نفسه داعية للأسطورة الأدبية الجديدة: الكافكاوية.
لم يكن قرار برود هيّناً، إنه بالتأكيد قرار أساسي في تاريخ الأدب المعاصر. فكيف يمكن أن نتصوّر خارطة الرواية العالمية في القرن العشرين من دون أعمال مثل "القصر" و"المحاكمة" و"المسخ"؟ واختفاء هذه الأعمال قد يعني أن أجناساً فرعية مثل أدب الرعب والأدب النفسي لن تكون كما هي عليه اليوم.
لكن ماذا لو كان أحدنا مكان برود، أي قرار سيتّخذ بشأن مخطوطات كافكا؟ على بساطته، فإن هذا السؤال خطير حين يكون أحدهم في وضعية القرار: ماذا سأفعل بهذا المخطوط؟ سؤال يمكن طرحه على كافكا وعلى أي نص مكتوب؟ وهو أيضاً سؤال يطرحه كل من تقع على عاتقه مسؤولية نشر أي نص. الكاتب نفسه هو أوّل من يمّر في محنة هذا السؤال، وبعده قد يأتي المحرّر، والناشر، والمشرف على أي مجلة أدبية أو علمية وغير ذلك. تُعرض على هؤلاء "الأمانة" فيتهافتون على حملها، كما فعل "الإنسان" مع المسؤولية الأولى، فـ"كان ظلوماً جهولاً".
برود، ومنذ أن اتخذ قراره بالنشر، أصبح المسؤول الأوّل عن انتشار كافكا وبالتالي انتشار سوداويته وإعلانه الحاد بأنه لا يوجد منفذ أو خلاص من هذا العالم. برود مسؤول كذلك عن حجم معرفتنا بكافكا، فلم ينشر فقط أعماله الأدبية بل أيضاً مراسلاته وخربشاته. وبعد كل ذلك، أصبح برود مسؤولاً عن أسطورة اسمها "كافكا"، ومن ثمّ سيصبح مسؤولاً عن كليشيه اسمه "كتابة كافكاوية" وآخر اسمه "وضعية كافكاوية" تقال في سياقات سياسية واجتماعية وثقافية وغيرها، وهي استعمالات دارجة في ثقافتنا العربية بكثرة.
في رواية "أستاذ الرغبة" يقترح الكاتب الأميركي فيليب روث مشهداً يزور فيه بطله دافيد كيبشلر براغ، حين يعرف دليله السياحي أنه أستاذ أدب يأخذه إلى الحي الذي كان يسكن فيه كافكا. وضمن الحديث يعترف الدليل السياحي بأنه من بين كثيرين، منهم جميع سكّان هذا الحي، "مستفيدون من كافكا، بالرغم من أن معظمنا لم يقرأ له حرفاً". حين ترى استعمال مفردة "الكافكاوية" يخيّل إليك أن معظم مستعمليها من سكّان حي كافكا في براغ.
هكذا نفهم أن كافكا الذي قرأناه هو بالضرورة محكوم بمروره من بين يدي برود، ومن بعدُ مروره من أياد أخرى: مترجمون ونقّاد وكتّاب سيرته. حلقات متلاصقة وغير مرئية تفصل كل قارئ عن الكاتب.
ذكرى ميلاد كافكا التي تحلّ اليوم يمكن أن تتجدّد في كل مرة يحاول فيها قارئ القفز على كل الحلقات للوصول إلى كافكا. ربما هذا ما قصده مترجم كافكا إلى الفرنسية، ألكسندر فيالات، حين وضع كتاباً كتاباً بعنوان "كافكايَ" (أو كافكا الخاص بي)، وهو عمل انطلق فيه من سؤال: "من هو كافكا الحقيقي؟" وانتهي بإعلان تعدّديته، وبين النقطتين بدا ضائقاً صدرُه بتوسّط برود بينه وبين صاحب "المحاكمة". يبقى أن وجود الوسطاء يظلّ أمراً ضرورياً كي يصل نص إلى قارئه، وعلى هذا الأخير أن يضرب بفأسه بقوة في طبقات الأرض حتى يصيب النبع.