خلافاً للعديد من المنظّرين العرب الذين عبّروا عن تطلعات وأيديولوجيا الأنظمة التي ارتبطوا بها، لن تجد سلطة حاكمة واحدة في العالم العربي تحتفي بالمفكّر والكاتب السوري ساطع الحصري (1879 – 1968) الذي تصادف ذكرى ميلاده اليوم.
لا يعزى هذا الإهمال فحسب إلى أن صاحب "العروبة أولاً" قد لعب أدواراً هامة في العراق إبان حكم الملك فيصل الأول، وفي سورية عشية خروج المستعمر الفرنسي وتشكيل حكومات الاستقلال الأولى، وفي مصر بشكل أقل حين استقدمه جمال عبد الناصر لتأسيس "معهد البحوث والدراسات العربية" عام 1953؛ أي في مراحل تاريخية لا تجد لمنجزاته مؤيدين كثر في اللحظة الراهنة.
بل يبدو العامل الأساسي وراء إغفال تجربة الحصري التي تعدّ النموذج الأوضح لمشروع القومية العربية، مستنداً إلى مسألتين؛ الأولى تتعلّق بالاختلاف الكبير حول شخصيته وآرائه السياسية التي فضّل عدم الخوض فيها والتركيز على أفكاره وسياساته في المناصب التي شغلها، ما ولّد حوله الكثير من الشبهات والاتهامات لدى خصومه.
ظلّت خلفيته العائلية والاجتماعية مثار ريبة وتوجّس في صفوف الإسلاميين واليساريين وأصحاب النزعات الإقليمية في البلدان العربية الناشئة حديثاً، فطعنوا في تحوّله من موظف في الإدارة العثمانية التي مثّل عنصراً من نخبتها السياسية المدافع عن توجّهاتها إلى أحد المنافحين عن الفكر القومي ودفع البعض إلى التشكيك بأصوله الحلبية وهو المولود في صنعاء حيث كان أبوه يعمل هناك، وبتأخره في تعلّم العربية حتى تجاوز الثلاثين من عمره، مقابل إتقانه للغتين التركية والفرنسية.
الصدام الأبرز مع الحصري تصاعد مع تطبيق رؤيته في مناهج التعليم رغم أنه لم يتسلّم مهام الوزارة المسؤولة عنه، فراج حينها القول إنه مفروض بالقوة من سلطة الاحتلال الإنكليزي، لكن أحداً من خصومه لم يلتفت إلى تنحية الإنكليز له إثر قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 حيث نُفي إلى حلب ثم بيروت فدمشق التي كلّف فيها أيضاً بصياغة النظام التعليمي عام 1944.
المسألة الثانية تتصل بطبيعة أفكاره وآرائه تجاه التعليم، حيث أبدى صرامة شديدة في تثبيت العلمانية كمبدأ رئيس في تنشئة الأجيال، مع نزوعه إلى التخلّص من متعلّقات التراث العربي الإسلامي والتركيز على وحدة اللغة والتاريخ فقط كرابط يجمع العرب وهو الذي درس العلوم الطبيعية والرياضيات، وهو ما لم يعجب حتى قوميين وبعثيين لم ترق لهم تنظيراته حول تعريف العروبة وتجسيدها كثقافة وهوية للمجتمع.
كان الحصري مؤمناً بأولوية صهر كافة المكوّنات المذهبية والعرقية للمجتمع في منظومة واحدة، ورأى أن السلطة التي مكّنته من تنفيذ مشروعه قادرة على النهوض بمشروعها السياسي عبر المدرسة التي تتبنى عقيدة وطنية "يعقوبية" تشبه تلك التي قامت في أوروبا، وألمانيا على وجه الخصوص، مغفلاً أن هذه السلطة تفتقر إلى مشروعية جماهيرية تستند إلى العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع طبقات الشعب وفئاته ومشاركتها في صياغة عقد اجتماعي لا أن يفرض عليها من علٍ.
خاض صاحب "دراسات في مقدمة ابن خلدون" معارك شرسة ضدّ من كلّ خالفه الرأي، ومن أبرزها مساجلاته مع طه حسين دفاعاً منه عن عروبة مصر، أو مع دعاة "الحزب القومي الاجتماعي السوري"، أو مع القوى المتدينة والمحافظة في المجتمع، وربما حين لم يجد من النظام المصري ذات التأييد الذي لقيه في العراق وسورية، اعتكف بعد هزيمة حزيران على استكمال توثيقه لتجربته الطويلة عبر كتابة مذكراته حتى رحل عام 1968 في بغداد.