د ا ع ش
في الصور التي يدلقها التلفزيون في عينيّ، أحسب كيف أن الدقائق التي تختصر فظاعات حرب سورية تتراجع بشكل حثيث، لصالح الفظاعات التي ترتكبها داعش، هنا وهناك، ويغمرني حزنٌ كذاك الذي كان يجتاحني في أثناء سنوات وجودي في باريس، حين كانت أخبار حرب لبنان تنتهي بمجرد خروجها من التلفزيون، فينتفي معها اهتمامُ الآخرين بي وبأحوال أهلي، وتختفي نظرةُ التعاطف الخجولة التي كانت بائعة الخبز ترميني بها، هي التي كانت ابتسامتها، أو بالأحرى عبوسها، واستعجالها إياي، حين تسمع لكنتي الغريبة المتمهّلة، تصنع يومي.
ثم أتذكّر أن الحروب الحديثة كلها تدور في الشاشة الصغيرة، من حربيْ الخليج الأولى والثانية، إلى حرب البلقان، إلى حروب منطقتنا على اختلافها، وصولاً إلى "الثورات العربية"، وما أنتجته من حروب أهلية واقتتال، يتمّ تناولها في النشرات الإخبارية وفي الريبورتاجات، إلى أن تظهر حرب جديدة، فتنتهي تلك، فيما هي لا تزال مستعرة، ولا تزال تُحرق وتدمّر وتطحن وتدكّ. وإن تجرّأ أحدهم، وأراد التذكير بها وبأوجاعها، قوبل بالدهشة، ثم بالتململ والاستياء، متبوعةً بملامة من نوع: ما هذه الأنانية، ألا ترون كل ما يجري في العالم من مآس!
تلفزيون أو فيديو لا فرق، وقد باتت الشاشة الصغيرة نافذتنا الوحيدة إلى الوجود، أكانت في التلفاز أو في الحاسوب، أو حتى في هاتفنا الذكي. فالذين ذبحوا الصحافي الأميركي، جيمس فولي، عرفوا أنه لن يموت فعلياً، إلا إن مات أمام الكاميرا، بل إن الشاشة الصغيرة هي ما ستجعل موته قائماً إلى ما لا نهاية، موتاً لا يموت، محاصراً في لحظة أزلية، كالعقاب الإلهي، لا ينتهي مع حلول موعد القيامة.
تسألني طفلتي التي تتمدّد إلى جانبي ناعسةً في موعد النشرة الإخبارية، ما هي داعش ماما؟ ألتفت إليها مذعورةً، كما لو أن داعش اقتحمت بيتي للتوّ، مصدومة كيف أنها، على الرغم من سنواتها الندية القليلة، قد التقطت هذا الاسم. ثم أهدأ، حين أتذكّر أنها غالباً ما تردّد كلمات تتكرّر أمامها على مرّ الساعات، من دون أن تسألني عن معناها، تعيدُها وتتلاعب بها كلازمة موسيقية، متحدّية نفسها، وقدرتها على اللفظ.
آمر صغيرتي بالصمت والرقاد فتمتثل، تغلق عينيها، وأجلس، أنا، في فسحة الهدأة الوحيدة التي يوفرها لي اليومُ، بعد إتمام واجباتي العملية، وواجباتي كأم، صامتة، مقطوعة الأنفاس. غداً، أو بعده بأيام، أو حتى بشهور، ستعود طفلتي إلى السؤال، والأطفال عتاة حين يريدون شيئاً ما. لا بأس، أفكر في الأمر لاحقاً، وأجد لها إجابة ما. لكنّ الهدأة لا تأتي، وأنا أستحمّ بالصور المرعبة، قتلاً وذبحاً وتدميراً وسبياً وقطع أيدٍ و... كيف أسوّر عيني طفلتي وعقلها وروحها من كل هذا العنف، من كل تلك القسوة وذلك القبح؟
وكما يحصل لي، حين تجعل كلمةً، أو عبارة ما، تطرق رأسي كالسندان، فأنهض لأفتّتها وأفكّكها إلى جزيئاتٍ، يسهل عليّ تذويبها في الماء، أو نفخها في الهواء، ألتقط الكلمة المؤلفة من حروف أربعة، ثم أفتح قواميسي على أنواعها، وأنظر... لا شيء! ثم كالرؤيا، يبرق أمامي جدولُ دلالات الحروف للشيخ عبدالله العلايلي، وكنت قد استعنت به في روايتي "لغة السر"، وهو العلّامة القائل إن معنى الكلمة لا يجيئها اعتباطاً، بل من علاقات معاني الحروف.
أقرأ: حرف (د) يدلّ على التصلّب، وحرف (ا) على الجوفية، وحرف (ع) على خلوّ الباطن، وحرف (ش) على التفشّي بغير نظام. أكاد لا أصدّق عينيّ، هذه هي! وبهذا، يصبح معناها: التصلب المتجذّر الفارغ من المعنى والمتفشّي في كل اتجاه!
حمداً لله، يمكنني، الآن، النوم، وقد وجدت، أخيراً، ما يشبه إجابةً ما.