دلالات هجمات الجمعة الأسود

20 نوفمبر 2015
+ الخط -
أحدثت الهجمات الإرهابية النوعية التي ضربت باريس وسان دوني (ضاحيتها الشمالية الشرقية) صدمة ما بعدها صدمة في فرنسا، بالنظر لعدد الضحايا المرتفع (129 قتيلاً و352 جريحاً)، وهي أثقل حصيلة في تاريخ فرنسا التي سبق أن كانت مسرحاً لعمليات إرهابية، ومنها التي ضربت مقر صحيفة شارلي إيبدو في يناير/كانون الثاني الماضي. بهذه الهجمات الجديدة، تنقل التنظيمات الإرهابية، وتحديداً داعش، مواجهتها مع فرنسا إلى تراب الأخيرة. وهناك عدة دلالات لهذه الهجمات التي تعد نقلة نوعية في العمل الإرهابي في فرنسا.
أولاً، تصلب عود الإرهاب المحلي المنشأ (وليس المستورد كما في السابق)، ذلك أن المنفذين خرجوا، في أغلبيتهم الساحقة، من رحم أوروبا، فهم ولدوا وترعرعوا في أوروبا. ويعبر هذا ليس فقط عن اختراق أمني، بل اجتماعي أيضاً، حيث أصبحت شرائح من شباب أوروبا، من مسلمين، عرضة لمخالب التنظيمات الإرهابية التي تحولهم إلى قنابل بشرية موقوتة، في قلب مجتمعاتهم الأصلية.
ثانياً، خطورة البعد الهجين للتهديدات، أي التقاطع بين الإجرام والإرهاب، ذلك لأن منفذي هذه العمليات الإرهابية جميعاً أصحاب سوابق قضائية (لتورطهم في مخالفات وجنح مختلفة)، قبل أن يتحولوا إلى إرهابيين، بمعنى أن ماضيهم/خبرتهم الإجرامية سمحت لهم بالتحرك خفية، والحصول على الأسلحة والمتفجرات اللازمة. وهذا ما يجعل من محاربة انتشار الأسلحة وتهريبها في أوروبا مسألة أمنية في غاية الأهمية.
ثالثاً، يبقى الإرهاب في فرنسا صنيعة أفراد من أصول عربية إسلامية، ما يعني أن هناك خللاً اجتماعياً ليس فقط على مستوى تعامل المجتمع مع الجالية العربية-الإسلامية، بل حتى في أوساط بعض شرائح هذه الجالية. وهذا ما يعرّض الأخيرة لمزيد من المخاطر العنصرية في أوروبا. وهذا هو الهدف الذي ترمي إليه الأممية الإرهابية الإسلامية، فهي تريد دق إسفين بين المجتمعات الأوروبية ومواطنيها من أصول عربية-إسلامية. فهي تغذي العنصرية ضدهم، لتتغذّى، فيما بعد، من هذه العنصرية. ومن ثم، هناك توظيف ومصلحة متبادلتان بين الأممية الإرهابية الإسلامية واليمين المتطرف الأوروبي.
رابعاً، تدعم البعد العابر للأوطان للإرهاب، فالعمليات الإرهابية الأخيرة ثلاثية البعد جغرافياً من حيث الإعداد والتنفيذ، إذ يتوزع منفذوها من حيث النشاط و/أو الإقامة على ثلاث دول، هي سورية وبلجيكا وفرنسا. ومن ثم، لن تنجح مكافحة الإرهاب في إطار وطني، وهذا ربما ما يفسر جزئياً تصلب عود الجماعات الإرهابية، لتماطل بعض الدول وترددها في الانخراط في هذه العمليات، تجنباً لعمليات على أراضيها.
خامساً، وجود خلل في كيفية تعامل فرنسا مع الإرهاب وصعوبة التوفيق بين مستلزمات دولة
القانون وضرورات مكافحة الإرهاب، فبعض منفذي هذه العمليات من الفئة التي وضعت لها الاستخبارات الفرنسية بطاقة "تهديد أمن الدولة"، أي أنهم كانوا معروفين لدى الأجهزة الأمنية التي راقبتهم في وقت من الأوقات، لكنها لم تواصل تتبع آثارهم وتحركاتهم لغياب مؤشرات على إمكانية قيامهم بعمليات إرهابية. ونظراً لعددهم المرتفع، تركّز هذه الأجهزة على من تعتبره الأخطر، وذلك حسب إمكاناتها. وعلى الرغم من عدم تمكنها من تجنب هذه العمليات، فإن طريقة تعاملها معها واعتقالها وقتلها أفراداً من المجموعة المنفذة، وفي وقت قصير، بالنظر لحجم هذه العمليات وفظاعتها حجة تحسب لهذه الأجهزة.
سادساً، نظراً لطبيعة الإرهاب، فإن تحييد الخطر بشكل كامل لا محل له من الأمن، إذ لا توجد أي دولة قادرة على تجنب كل العمليات الإرهابية على أراضيها، أو ضد مصالحها في الخارج، لأن الإرهابيين مواطنون عاديون (قبل التفجيرات)، وحتى وإن كانت هناك شكوك في سلوكهم، فمن الصعوبة بمكان معرفة الوقت الذي سينتقلون فيه من الإيمان بالإرهاب إلى التفجيرات، خصوصاً أن سياق دولة القانون في الديمقراطيات الغربية يصعب من الإجراءات الاستباقية، لما تمثله من خرق للحريات.
سابعاً، تؤكد هذه الهجمات، كما كتب صاحب هذه السطور في مقالات سابقة، أنه عندما يحدث تعارض بين المستلزمات الأخلاقية والمستلزمات الأمنية فإن الغلبة تكون دائماً للأخيرة. فقد أحدثت هذه الهجمات منعطفاً في سياسة فرنسا محلياً وخارجياً. فعلى الصعيد المحلي، تقول الحكومة الفرنسية إنها في حرب (على طريقة مشابهة للحرب الأميركية على الإرهاب)، معلنة حزمة من الإجراءات الأمنية، بدءاً بإعلان حالة الطوارئ في البلاد التي ستمدد (عبر البرلمان)، ما يعني العمل بإجراءات استعجالية من دون الرجوع إلى السلطة القضائية. وعلى الصعيد الخارجي، غيرت فرنسا تماماً من وجهتها السياسية، حيث تقربت من روسيا بسرعة فائقة، بعد أن بلغت ظاهرة الروسوفوبيا مستوياتٍ غير معهودة في الأوساط السياسية، وحتى الاجتماعية، في فرنسا. إذ بدأت الاتصالات بين البلدين، وعلى أعلى المستويات، للتنسيق لمحاربة داعش. وتريد فرنسا ائتلافا دولياً واحداً ضد هذا التنظيم، بالتوسط أيضاً على ما يبدو بين روسيا وأميركا. وبالنظر لغلبة الاعتبارات الأمنية في سلوكها، فإن فرنسا هي من يتقرب من روسيا. وبالتالي، وفق شروط هذه الأخيرة، خصوصاً أن الأصوات تتصاعد في فرنسا، مطالبة بتغيير السياسة حيال الأزمة السورية. ويمكن تلخيص هذه المواقف الجديدة في فرنسا بالقول إن نظام الأسد خطر بعيد (تحمّله فرنسا مسؤولية مقتل 200 ألف سوري)، بينما داعش خطر قريب وحقيقي.