درس متأخر

14 مايو 2015
+ الخط -
ليست بالبعيدة كانت ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، والتي تشكل مقدّمة هامة لقراءة اللحظة العربية الراهنة، فخلال سنواتها الخمس عشرة (1975- 1990) رُسمت الخريطة السياسية العربية التي قامت ضدها ثورات الربيع العربي، في سبيل إعادة إحياء مفهوم الدولة الوطنية، وإنهاء الدكتاتوريات العربية المسيطرة على مقاليد الحكم، بدعم من إيران وأميركا، لا سيما بعد تفتت الاتحاد السوفييتي. 

ولعل المرحلة الأبرز في تلك الحرب، من حيث أنها تكثف كل معانيها ودلالاتها، هي مرحلة اجتياح بيروت، التي شكّلت فرزاً حاداً بين القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية من جهة، والجيش الصهيوني والنظام السوري والقوى الانعزالية من جهة أخرى. ولعل خروج الفلسطينيين من لبنان إلى رحلة التيه الطويلة، وفقدان اليسار الثوري اللبناني سنده وحليفه، إضافة إلى التنكيل الذي طاله من أذرع إيران في لبنان، كان يبدو أنه تحقيق كل الأهداف المتوخاة لإسرائيل في تلك المرحلة.

إلا أن الأخطر يتمثل في الانتصار الأكبر الذي حصدته إيران، عن طريق النظام السوري، من حيث إطباقه السيطرة الانتدابية الكاملة على لبنان، وإطلاق يد "حزب الله" ليعمل على مقاومة العدو بهدف تحرير الجنوب، لكن الأكثر دقةً أنه كان يريد أن يؤسس دولة داخل الدولة، وما من سبيل لتحقيق ذلك إلا بأخذ الشرعية من هوية المقاومة، ففكرة التحرير الوطنية تحتّم مشاركة كل لبناني حر فيها، لكنّ الحزب احتكر ذلك لشريحة معينة، ليكون لها لاحقاً ما بتنا نعرفه في حرب اليوم التي يلعب فيها الحزب دوراً طائفياً، تدميرياً، تفتيتياً، لا يمت بأية صلة لقاموس المقاومة والتحرير الذي تتشدق به أدبياته وإعلامه.

الأمر الآخر، وهو لا يقل أهميةً عن ترتيبات البيت اللبنانيّ، أنّ النظام السوري استطاع أن يستغلّ هذه الحرب ليثبت أركان حكمه، فهي جاءت بعد خمس سنوات من استيلاء الأسد الأب على السلطة، وبعد سنوات ليست كثيرة وقعت المجازر بحق معارضيه، وكان تتويجها الأكبر مجزرة حماة، بالإضافة إلى حملة شعواء ضد كل اليسار السوري الثوري، وهو ما جعل سورية مجرد صحراء سياسية، البعث واحتها الوحيدة.

لم ينتهِ عقد الثمانينيات من القرن الماضي إلا وخريطة المنطقة مرسومة بأدوات الهندسة الإيرانية، فقد وصل النظام الأسدي إلى المستوى المُشتهى من الاستقرار، والذي سيمهد لتوريث مريح بعد قرابة عقد من الزمن. ومن جهته، صار حزب الراية الصفراء الحاكم الفعلي للبنان.
يشير ذلك التاريخ إلى أن ثمة من أسس للطائفية، سياسية واستراتيجية، على حساب وأد مشروع التحرر العربي المتمثل بحركة المقاومة الفلسطينية اللبنانية، ورهن مصير البلدان العربية لصالح المصلحة الإيرانية، على حساب انهيار المجتمع المدني، والحياة الحزبية، والثقافة النقدية الحرة، والتيارات السياسية المعارضة.

ذلك التاريخ الذي يرخي بظلاله اليوم على ما يجري، هو سيرورة للفكر الانتقامي، ولعل المطلوب من الشباب العربي أن يقرأ اللحظة في سياقها التاريخي، كي يفهم دوره في متاهة المرحلة الحالية، والتي نجملها في إعادة تأهيل حركات التحرر العربية، التي تسير في طريقها إلى الوأد، كي لا نكون متشائمين، بالتزامن مع إحياء قيم الثورات العربية التي انطلقت في تونس ومصر، بشعاراتها المدنية والديمقراطية، قبل أن تطالها الضربات الانقلابية في مصر، ودخول ليبيا في مسار ضبابي، والانفلات الدموي في كل من اليمن وسورية، وفشل البحرين في إتمام عملية التحول الديمقراطي السلمي.


راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk
المساهمون