داعش يحرق بيانو المخيم

23 ابريل 2015
+ الخط -

أذكر تماماً ذلك اليوم الذي دخلت فيه أول مرة إلى محل الأيهم للموسيقى في مخيم اليرموك، كنت مرتبكاً بعض الشيء، فالمكان كان يعج بالموسيقيين الشباب، لم أطل الجلوس كثيراً قبل أن يكسر أيهم حاجز الصمت قائلاً لي "سمعنا أبو غابي"، وأعطاني ميكروفوناً صغيراً قبل أن يبدأوا عزف أغنية "سألوني الناس" للسيدة فيروز وغيرها من الأغاني.

ساعتان ونصف الساعة من الموسيقى والغناء تخللتهما البروفا الأولى لأغنية "زدياوطن" من كلماتي وألحاني، تلك الأغنية التي بقيت أسيرة ذلك المكان قبل أن يجد لها أيهم توزيعاً مختلفاً ليغنيها أول مرة برفقة البيانو وشباب اليرموك بعد سبع سنوات، مع فرقة شباب اليرموك في بداية الحصار على المخيم، أتذكر جيداً المكان الذي اعتدت بعدها زيارته لسنوات، صور فيروز وزياد الرحباني وموتزارت وشوبن وبيتهوفن التي كانت تملأ جدران المحل، بالإضافة إلى النوتات المرسومة وسقف المحل المليء بالأعواد الدمشقية القديمة والنفيسة، والتي صنعت على يد أشهر صانعي الأعواد في سورية والعالم العربي، كإبراهيم سكر وسالمين الكويتي، ولعل أبرزها وأثمنها كان عود قديم يعود لعام 1902، لصانع العود الدمشقي الشهير"النحات"، وأعواد لصانعين، أمثال سميح شعبان وخليفة وغيرهم من الأسماء الكبيرة في هذا المجال، بالإضافة إلى أن والد أيهم عازف الكمان كان صانع أعواد محترفاً، وقد صنع الكثير منها.

ثلاث سنوات لم يغادر أيهم المخيم، بالرغم من الحصار القاسي على اليرموك، بقي بجانب آلاته الموسيقية يعزف الموسيقى ويغني، يجر البيانو في شوارع اليرموك في محاولة لبث الأمل في شوارع المكان المنهك، حتى معظم أطفال المخيم الذين ولدوا في الحرب أو عايشوها لا يعرفون سوى أغاني أيهم "المي بتقطع على طول" و"تيتي تيتي"، اليرموك اشتقلك يا خيا" التي كان يجوب شوارع المخيم ليغنيها معهم وحفظوها عن ظهر قلب، فالزمن عند هؤلاء الأطفال هو الحصار والمخيم، إنها الجغرافية الوحيدة التي عاشوها، إنها الموسيقى الوحيدة التي يعرفونها، تماماً كما يعرفون أصوات الحرب وبراميل النظام ووجوه الدواعش التي اقتحمت المخيم وسرقت الصوت الأمل، الذي كان يجوب أنفاسهم، وأحرقت كل آلات أيهم الموسيقية التي كانت تصدح في سماء المخيم، بما فيها البيانو الذي اجتمع حوله أهل المخيم يوماً ما يغنون لوطنهم المفقود ومخيمهم الجريح وعرفه كل العالم من شرقه إلى غربه.

تلك كانت هدية داعش وأنصار الظلام لأيهم في عيد ميلاده الثامن والعشرين، ولأهل المخيم أيضاً. قد يبدو المشهد سورياليّاً، لكنه لم يكن متوقعاً لمن عايش بيانو أيهم وموسيقاه، استحالة النور وسط كل هذا الظلام الذي يلف المكان من دمار وجوع وحصار، رحلت آلات أيهم الموسيقية وغادر أيهم وعائلته إلى بلدة يلدة المجاورة، أكثر من 400 آلة موسيقية ما بين كمان وعود وناي وغيتار وبيانو وغيرها، لفظت أنفاسها الأخيرة حرقاً، رحلت وبصمت تماماً كما رحل شهداء المخيم، رحلت، لكن أنغامها ستبقى وتتمدد في ذاكرتنا المتخمة بالألم والأمل.

المساهمون