داعش كيان ذو طبيعة إعلامية
لدى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" نظرة عدائية للحجارة، وخصوصاً الرخام والبازلت والجص. لذلك، أصدر فقهاؤه فتوى مبرمة لا تقبل جدلاً بتحطيمها، فهوت المطارق، بكل حيوية وبأس، على وجوه الملوك والآلهة التي تحولت في لحظات إلى ما يشبه شظايا الزجاج.
يستطيع الفقيه العتيد في إمبراطورية داعش أن يجد لهذا الفعل مسوغاً شرعياً في القرآن أو السنة النبوية الشريفة، مثلما وجد، قبل ذلك، مسوغات لفظائعه الأخرى. لكن، ما يثير الحيرة، حقاً، أن تجد لدى داعش الإلحاح الديني الذي يدفعه إلى عقد محكمة خاصة، وإصدار فتوى يحطم، إثرها، متحفاً متكاملاً، أو يقوم بإعدامات "فنية" متنوعة، مع أن لديه أولويات عسكرية ملحة؛ وهو يتلقى الهجوم الجوي المكثف من طائرات التحالف، ويدري بوجود تحفز بري من الجيوش المحلية في العراق وكردستان. ولم يعكس هذا السلوك "الشرعي" المتشدد مؤشراً عن مدى ورع هذا التنظيم. وعوضاً عن ذلك، ظهرت مقالات كثيرة تحلل القدرة الدرامية لدى مخرجي "الدولة" وقوة عدسات كاميراتهم.
يعلم فقهاء التنظيم أن للقطع الأثرية التي تبعثرت على الأرض قيمة مادية ومعنوية ورمزية كبيرة، ويدركون أن فقدانها، بهذه الصورة، سيخلف ألماً وحسرة لدى ناسٍ كثيرين، ولعل هذا السبب الحقيقي لإقدامهم على تحطيمها، فبالتأكيد، هم لا يحاولون إعادة سيرة إبراهيم الخليل الذي حطم الأصنام، ووضع المعول على كتف كبيرها، ولا يستعيدون الإرث الناتج عن فتح مكة، عندما حطم النبي مجمعَ الآلهة الحجري في باحة مجمع الكهنوت المكي. وإنما بدا القرار الشرعي، هنا، إعلامياً محضاً، وجرى تنفيذه بكيفية استعراضية، عندما تُرك المخربون يدمرون المكان بمعاولهم، وتُركت الكاميرا في وضعية بانورامية (فري بان) ترصد مشاهد تهاوي التماثيل، واحداً بعد الآخر، وكانت النتيجة إعلامية، أيضاً، شكلت صدى واسعاً في الفضائيات، وتأثيراً أوسع في الميديا الاجتماعية، بالإضافة إلى تداول صحافي غزير لمقاطع فيديو التكسير.
يكاد التنظيم، والحالةُ هذه، أن يحول نفسه إلى كيان إعلاني نشيط، يدأب على تقديم مادة صحافية وتلفزيونية محفزة للحوار، بل وللجدل. ونجح في ذلك إلى حد بعيد، مركزاً على "الإدهاش" وإثارة المشاهد التي توفرها المرونة العالية، والتي يسمح بها "الشرع"، عندما يقتصر القانون الداعشي على عقوبة واحدة، هي الإعدام. ولكن، تأتي الخصوبة، غالباً، في طريقة التنفيذ، فهنا تكون السيادة للكاميرا والصورة، وتغيب عن المشهد كليةً قصص التراث، عندما يحرص الشريط السينمائي على إحصاء أنفاس الضحية، وتسجيل كل لحظات معاناتها، كما في فيديو حرق الطيار معاذ الكساسبة. وعلى الرغم من أن الشرائط الإعلامية تطفح بالرسائل الصوتية المباشرة إلى الدول الكبرى والصغرى، فذلك كله يضيع وسط حشرجة الموت التي تنطلق من الضحية، وهو يلفظ النفس الأخير.
الخلافة، وصورة الحكم الديني الذي تدعيه "الدولة"، لا يبرران طريقة الصعق الإعلامي الذي تتبعه، وقد يبدو أن هذا التركيز الشديد على الصورة مطلوب لذاته عند التنظيم، وربما هو لا يمتلك غيره لتسويق نفسه، وقد وجد مخرجو داعش ساحة واسعة لاستعراض قدراتهم، مستغلين حقيقة أن الشرع لا حدود فيه أو أوامر أو نواهيَ تتعلق بتوجيه زوايا الكاميرات، ولا بضبط عددها، وقد حَدَّدَت أفلامُ التنظيم طريقة حياتها وإطارها الخارجي، من خلال وجودها في واقع حياة أهالي الموصل والرقة وغيرهما، لكن وجودها الفعلي سيكون أكبر على سيرفرات "يوتيوب" وفي ذواكر الكومبيوترات.
وفي كل الأحوال، لا يبدو هذا النوع من الإعلام منسقاً، ولا منظماً، فهو، وعلى الرغم من الحرفية الظاهرية للقائمين عليه، عشوائي، حيث إنه يصور المشهد وأذهان مخرجيه تفكر في الفيلم التالي، لتبقى الأعصاب مشدودة ومتوترة. وقد أثارت أفلام التنظيم نقاداً فوصفوها بأنها ذات تقنية درامية عالية، وهو تحليل خاطئ، فهذا الشريط يأخذ قيمة كبيرة لأن "الممثل" الرئيسي فيه يقوم بدور حقيقي! وهنا تكمن اللعبة الإعلامية التي تُكسب مخرجَ داعش مزيداً من النقاط.
ولأن المشاهد سرعان ما يمل، وأشرطة التنظيم ستتحول إلى مادة أرشيفية، ولأن التنظيم كيان يعتمد في قوته على الكاميرا، نصل إلى نتيجة أن تماسكه مزيف، وأنه كيان مؤقت معرض للتحلل، لكنه قد يتحول، حسب قوانين لافوازيه في تحول الكتلة إلى عناصر أخرى، ربما كانت أكثر خطورة من التنظيم بصيغته الحالية.