كسرت الولايات المتحدة، باغتيالها قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، أبرز جنرالات إيران، ورجل طهران الأقوى في الخارج، قواعد اللعبة في التوتر المتصاعد مع إيران منذ عامين تقريباً، إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، في الثامن من مايو/أيار 2018، وتجاوزت الخطوط الحمر، بحسب قول أكثر من مسؤول إيراني، سياسي أو عسكري، خلال اليومين الماضيين. وتتجه أنظار العالم إلى إيران، بحثاً عن إجابة مُقنعة على سؤال يشغل بال الجميع هذه الأيام، وهو متى وكيف سترد على هذا الهجوم الأميركي؟ وما هي خياراتها في الرد؟، وذلك على وقع تهديدات إيرانية متصاعدة، خلال الساعات الأخيرة التي أعقبت اغتيال سليماني، بأن الرد سيكون "قاسياً ومزلزلاً ومروعاً" وأن الانتقام والثأر آتٍ لا محالة، ليجعل ما بعد الاغتيال أسوأ مما قبله للأميركيين في المنطقة، بحسب التصريحات الإيرانية.
هذا التصعيد الكلامي الإيراني، عقب اغتيال سليماني، جعل مراقبين يتوقعون أن الرد سيكون سريعاً، وخلال أيام، وعليه بدأت التحليلات والتكهنات لرسم ملامح الرد والطريقة التي ستختارها إيران. لكن على الرغم من تلك التهديدات، ثمة مؤشرات خجولة توحي بأن طهران ليست مستعجلة كثيراً في الرد، وهي تبحث عن "الزمان والمكان المناسبين"، وهو ما أكده بيان المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أول من أمس الجمعة، بعدما التأم بحضور المرشد الأعلى علي خامنئي، إذ قال إنه بعد دراسة مختلف أبعاد "الجريمة"، اتخذ قرارات لازمة، من دون الكشف عنها، إلا أنه أكد أن "المجرمين سيواجهون انتقاماً قاسياً من المنتقمين لدماء الجنرال سليماني في الزمان والمكان المناسبين". وفي السياق أيضاً، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الجمعة الماضي، أن بلاده سترد على اغتيال سليماني ورفاقه "في أي وقت تراه مناسباً وبأي شكل تختاره".
وتشير هذه التصريحات الإيرانية إلى أن القرار قد اتُخذ بالفعل للرد على اغتيال سليماني، لكنه ليس "متسرعاً"، بل مؤجلاً إلى "الزمان والمكان المناسبين"، وأنه تحت سقف محدد وليس مفتوحاً لاعتبارات تفرض ذلك، وهذا واضح في تصريح المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية أبو الفضل شكارجي، أمس السبت، بتهديده واشنطن برد "أقوى" إذا ما ردت على التحرك الإيراني، أي أن هذا الرد أياً تكن طبيعته ومنطلقه ووجهته، سيكون منضبطاً في أطر محددة. وفيما تمتلك إيران خيارات متعددة للرد، لكن هناك أيضاً كوابح وروادع تقلص هامش المناورة، وتحول دون تجاوز سقف محدد أياً كانت طبيعته وطريقة التنفيذ، لأن هذا التجاوز يمكن أن يؤدي إلى مواجهة شاملة في المنطقة، لا تحمد عقباها. أما الخيارات، فهي كثيرة، يمكن تلخيصها في ثلاثة خيارات أساسية:
الخيار الأول: القيام بهجمات مباشرة انطلاقاً من الأراضي والمياه الإيرانية، ضد أهداف أميركية في المنطقة، سواء من خلال إطلاق صواريخ بالستية، أو تحريك طائرات مسيّرة، تستهدف بها، إما واحدة أو عدداً من القواعد الأميركية، البالغ عددها 36 قاعدة في الدول المحيطة بإيران. إلا أن هذا الخيار قد لا يكون مفضلاً لدى طهران، في الوقت الحاضر، لأسباب عدة، أولها بسبب تبعاته الخطيرة التي من شأنها أن تشعل حرباً ومواجهة عسكرية شاملة بين الطرفين، إذ يُستبعد أن تتجاهل واشنطن هجوماً مباشراً من طهران على مصالحها، وسط تهديدات أميركية بذلك، إذ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بلاده "تمتلك قائمة للأهداف، ونحن جاهزون لتنفيذها في أي وقت"، في محاولة لردع إيران عن القيام بهجمات على المصالح الأميركية. وثانياً لأن الأراضي الإيرانية لم تتعرض لهجوم أميركي، وأن الاغتيال وقع في أراضي طرف ثالث، يتصارع الطرفان فيها على النفوذ.
الخيار الثاني: الرد في ساحات المواجهة عبر الحلفاء، وهذا الرد قد يتجاوز أهداف واشنطن إلى أهداف حلفائها أيضاً، خصوصاً أن تصريحات المسؤولين الأميركيين، على مدى الأيام الأخيرة، توحي بأن تنسيقاً بين أميركا والسعودية وإسرائيل والإمارات، سبق اغتيال سليماني. إلا أن الساحة العراقية، التي نُفذت فيها عملية الاغتيال، تبقى هي الأكثر ترجيحاً لدى طهران للانتقام انطلاقاً منها، لوجود حلفاء أقوياء لها فيها، ولسهولة نقل معدات عسكرية إليها إن استدعت الحاجة، بحكم ملاصقتها الجغرافية لإيران.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الرد الإيراني في العراق على الأغلب لا يقتصر على الطابع العسكري، بل قد يتجاوز ذلك ليشمل ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية على الحكومة والقوى السياسية العراقية لإلغاء اتفاقية التعاون الأميركي العراقي، وإخراج القوات الأميركية من العراق. كما أنه في سياق الخيار الثاني، هناك احتمال أن تصعّد طهران عبر الحلفاء ضد كل من السعودية والإمارات وإسرائيل، عبر تسخين الجبهة اليمنية والجبهة السورية ومياه المنطقة وجبهات أخرى. ومن هنا، يمكن فهم التصريحات الإيرانية بأن اغتيال سليماني سيدفع "جبهة المقاومة" للرد عليه، إذ اعتبر مستشار خامنئي للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، أن الجبهة ستنتقم من "الأميركيين وعملائهم"، و"أنهم سيدفعون الثمن".
الخيار الثالث: تصعيد متدرج وملحوظ بساحات المواجهة، لكن بإيقاعات متصاعدة ومنضبطة في الوقت نفسه، لتدخل هذه الساحات في حرب استنزاف ضد الولايات المتحدة وحلفائها. هذا الخيار أيضاً له مقوماته، ما يجعله أحد الخيارات المفضلة لدى إيران إلى جانب الخيار الثاني، لقلة مخاطرهما الآنية، وكثرة منافعهما الاستراتيجية طويلة الأمد. في سياق الخيار الأخير، لا يستبعد أيضاً أن تعتمد طهران نهجاً تصعيدياً في التعامل مع الاتفاق النووي، لتطاوله تداعيات اغتيال سليماني الذي حصل قبل أيام معدودة من حلول موعد تنفيذ إيران المرحلة الخامسة من تقليص تعهداتها النووية، بعد انتهاء المهلة الرابعة غداً الإثنين. لذلك من المحتمل أن تكون خطوات هذه المرحلة تصعيدية بامتياز، كجزء من الرد على الاغتيال، وربما تتجاوز هذه الخطوات إلى الإعلان عن الانسحاب من الاتفاق النووي. وما يمنح طهران دافعاً قوياً في الذهاب باتجاه خطوات نووية تصعيدية، وحتى إن لم تصل إلى حد الانسحاب من الاتفاق، هو موقف الأطراف الأوروبية المشاركة فيه، من واقعة اغتيال سليماني، ودعمهم العملية الأميركية، الأمر الذي أغضب السلطات الإيرانية التي انتقدت هذا الموقف الأوروبي بشدة.
وما يعزز هذا الاتجاه أيضاً، أن اغتيال سليماني من شأنه أن يقضي ولو لبعض الوقت، على أي فرصة للتفاوض بين طهران وواشنطن. مع ذلك، يبقى هناك احتمال ضعيف أن يحاول ترامب وراء الكواليس عرض مقترحات مغرية لإيران، بشأن تخفيف العقوبات، ليكون قد سجل هدفاً انتخابياً من دون رد. في المحصلة، بين تلك الخيارات المطروحة أمام طهران، وعلى ضوء الكوابح والمخاطر التي تعتريها، يُتوقع أن تبحث السلطات الإيرانية عن حل وسط للرد، لا يظهرها في موضع الضعف أمام اغتيال بهذا الحجم له دلالاته الكبيرة، ومن جهة ثانية لا يؤدي إلى خروج الأوضاع عن السيطرة ونشوب حرب، هي بغنى عنها في ظل التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها.