خالد صبيح: قتلنا "الراحل الكبير" كي نتصالح معه من جديد

12 مايو 2019
الفرقة قائمة على فكرة عدم وجود معايير (WKNO)
+ الخط -
التحرر من كل أشكال القيود المفروضة، فنياً وسياسياً واجتماعياً، كان الهدف من إنشاء فرقة "الراحل الكبير" التي استطاعت تكوين التفاف جماهيري حولها، لنسمع من الفرقة أغاني تعبر عن بؤس الواقع اليومي المعيش. هنا، حديث مع أحد مؤسسيها، خالد صبيح.


- حدِّثنا عن بداية الفرقة والبيئة التي نشأت فيها وأطلقت أول ألبوماتها. ولماذا سُميت "الراحل الكبير"؟
* تأسست فرقة الراحل الكبير بين أواخر عام 2012 ومطالع عام 2013، في وقت كانت التحوّلات الكبرى تضرب المنطقة. في ذلك الوقت، قرّرنا أن ننطلق بمشروع جديد مختلف عن كلّ ما عملنا عليه في السابق، من إحياء تراث، أو استعادة أعمال كلاسيكية، أو حتى التلحين أو إعادة التوزيع ضمن قواعد المدرسة الكلاسيكية. الهدف كان أن يتحرّر هذا المشروع من أي قيد أو شرط، من حيث الكلام واللحن وطريقة الأداء. هو تقريباً ما كنّا نخجل من فعله في الماضي، بسبب سطوة الصحّ والخطأ، وما يجوز وما لا يجوز، بحسب القواعد الأكاديمية، أو النسق الكلاسيكي الطاغي على ذاكرتنا.

من هنا، جاءت تسمية الراحل الكبير، كنوع من القطيعة مع طغيان الماضي، وليس مع الماضي نفسه، لنذهب إلى مساحات جديدة تُشبهنا. نحن نحتاج إلى "قتل الأب" لنعود ونتصالح معه من جديد. ربما، نحن نحتاج أن نفعل ذلك في الموسيقى كما في الثقافة والفكر السياسي والديني والاجتماعي. التواصل مع الماضي والانطلاق منه أمر جيد، لكن الذوبان فيه هو موت، وتكراره هو موت.



- تترحّم "الراحل الكبير" على القديم من الفن وتتهكم على السائد الهابط منه، وتمزج بين الاثنين. ما هي المشارب الموسيقية التي ينهل منها أعضاء الفرقة وتؤهلهم لطرح ما هو جديد؟
* نحن في الفرقة متعمّقون في الموسيقى الشرقية سماعاً ودراسةً وتنفيذاً. معظمنا درس الموسيقى الشرقية في المعاهد والجامعات، وكلنا عملنا في مشاريع موسيقية تستعيد تراث القرن التاسع عشر والقرن العشرين. نحن أبناء مدرسة أصولية في الموسيقى، وهذا التراث متجذّر فينا شئنا أم أبينا. مصادر الإلهام كثيرة، من الإنشاد الديني المصري والشامي، ورصيد الموشّحات والأدوار التي وصلتنا من القرن التاسع عشر، إلى سيّد درويش وزكريا أحمد ومنير مراد والشيخ إمام. أما المصادر الغربية، فتراوح بين الكلاسيك الأوروبي وصولاً إلى الروك العنيف. لكن يبقى الواقع في عنفه وعبثيته هو الملهم الأول للكتابة والتلحين، وبعد ذلك العزف والغناء والأداء.


- هل توجد معايير فنية محددة للعروض التي تقدمها "الراحل الكبير"؟ أم أن الفرقة لا تُلزِم نفسها بمعايير وأنماط فنية تُقيد ما يمكن أن تعرضه؟
* ليس هناك معايير، الفرقة قائمة على فكرة عدم وجود معايير. نحن لم نهبط من المريخ، نحن أبناء هذا التراث الموسيقي المشرقي، ونحفظ قواعده وأصوله. لكننا الآن، في هذا المشروع، نريد أن يكون المعيار الوحيد هو التعبير بشكل نشعر أنه صادق ومناسب للحالة، وربما هذا هو المطلوب أصلاً من الفن، أن يعبّر عن واقع ومشاعر، غضب وإحباط، أمل أو غير ذلك، وأن يفهم القواعد وينطلق منها، وربما يكسرها إن اقتضى السياق التعبيري، لا أن يحوّلها إلى أصنام يعبدها ويقدّسها.



- عرضتم منذ فترة "أيام العجب"، وهو العرض الذي بدأتموه مطلع العام الحالي. وتنوعت موضوعات أغانيه، معبرة عن "قطيعة مع التفاؤل في الفترة السابقة"، وتصوير "للحالة العامة والتخبطات الشخصية والاضطرابات النفسية...". ألا تعتبر ذلك تكريسا لما نعيشه بتكراره فنياً، أم هناك نفس ثوري في التعبير عن تلك الأيام؟
* لا أعرف إن كان ما قدّمناه في "أيام العجب" تكريسا للواقع أو انقلابا عليه. بصراحة، مع أنني لست من أنصار نظرية الفنّ للفنّ، لكن في الوقت نفسه لا أؤمن بأن الفنّ هو رسالة. الفن هو تعبير، إذا كان الواقع أسود، فسيكون التعبير عنه باللون نفسه. أنا لا أشعر مثلاً أن علينا واجب "استنهاض الجماهير". نحن نشعر بأشياء يشعر بها كثيرون في أوطاننا، نعبّر عنها، نسخر منها، نضحك على كلّ شيء، وربما في ذلك علاج لنا، أو تسكين من فظاعة السوريالية التي تدور حولنا.



في بعض الأحيان، ساهمنا من دون أن نخطّط لذلك، في تحركات شعبية، كما حصل مع أغنية "كلّن يعني كلّن". حين سجّلنا الأغنية في عام 2015، كنّا نعبّر عن حالة الفصام السياسي في لبنان أثناء أزمة النفايات، ثم قرّرت محطات تلفزيونية بثّ الأغنية مراراً كنوع من التجييش لتظاهرات "طلعت ريحتكن". كذلك صارت الأغنية تُذاع في التظاهرات. سُررنا بذلك طبعاً. لكن اليوم انتهت التظاهرات وما زالت النفايات تسمّم لبنان، والأغنية ما زالت على يوتيوب.
 

- اروِ لنا الأسباب التي قادتك إلى كتابة "مولد سيدي البغدادي" و"نشيد الطفل المعجزة"، خصوصاً أنهما انتشرتا بشكل كبير بين الناس.
* أغنية مولد سيدي البغدادي كُتبت في وقت كان ما يُسمّى بـ "تنظيم الدولة الإسلامية" يُجهز على الانتفاضة السورية، وينشر الرعب والذعر في المنطقة والعالم باسم الإسلام. كانت تسجيلات التنظيم تُفتتح أحياناً بعبارة تصف النبي بأنه "المبعوث بالسيف رحمةً للعالمين". القرآن يقول إن النبي أُرسل رحمة للعالمين، لكن البغدادي وجماعته أحبّوا أن يضيفوا كلمة "بالسيف". اجتماع كلمتي "بالسيف" و"رحمة" ينطوي على قدر من العته لا يمكن التعبير عنه إلا كما عبّرنا في الأغنية بهذا الشكل الساخر. وهذا التنظيم، الذي لا يختلف بالمناسبة كثيراً عن كثير من أنظمتنا، سوى بأنه يباهي علناً بما يفعل، يطرح نفسه صاحب الحقّ الوحيد وسلطان الله على الأرض، ويحيط نفسه بهالة من الوقار والقداسة من الممتع تحطيمها بالهزل، والردّ على الخوف بالسخرية. وربما هذا ما جعل الأغنية تنتشر. أما أغنية "نشيد الطفل المعجزة"، فهي عن ظاهرة التسلّق السياسي في لبنان، والتوريث والإقطاع الجديد حتى من أحزاب كانت ترفع شعارات التغيير ومواجهة التوريث، والإصلاح. رغم أن الأغنية تعتمد المواربة، وتذكر كلماتها ذلك صراحةً، تجنباً للمتاعب، لكنها في السياق الحالي واضحة تماماً للبنانيين.


- ما هي الصعوبات التي تواجهها الفرقة في مسيرتها الفنية؟ وهل هي صعوبات تتعلق بإنتاج وصناعة هذا الفن بالذات؟
* الصعوبة في هذا النوع من الموسيقى والغناء أنه إشكالي، يعني نحن لا نغنّي ما هو متّفق عليه ومتعارف عليه وما يوحّد ويهدئ البال والنفس. نحن لا نغني في "حبّ الوطن" وجمال الطبيعة، بل في مشكلات البلد والمنطقة ومسببيها، وما يطرح التساؤلات وينتقد يميناً ويساراً. وهذا لا يحرّك اهتمام شركات الإنتاج بطبيعة الحال، ويستفزّ ربما أهل الخير من هنا وهناك.
لكننا حتى الآن لم نحتج إلى شيء ولم نواجه مشكلة من هذا النوع. مع أننا تقريباً نعمل باللحم الحيّ، بعيداً عن أي مدخول مالي يذكر.




- عندما يحاول البعض البدء بمشروع فني مستقل، يتعثر بالسوق وآليات الإنتاج ومدى ارتباط ذلك باستقلالية المشروع. كيف أثر السوق على مشروعكم ومدى استقلاليته؟
* ليس وارداً أن نعتمد على منتج قد يجعلنا نساوم على ما نقدّم. نتعاون بشكل ثابت مع (مسرح) مترو المدينة، وهو مساحة حرّة ممتازة في بيروت، وتلقينا تمويلاً من مؤسسة آفاق لإنتاج مجموعتنا الغنائية الأولى، كان تمويلاً غير مشروط ولولاه لما أنجزنا الألبوم.


- شهدنا في السنوات السابقة ولادة فرق موسيقية عربية مستقلة واجهها عدد من المشاكل، مثل منعها من إقامة حفلة بسبب تناولها لمواضيع المثلية، وأخرى اتُهِمَت بالتطبيع، وغيرها انحرف عن مساره. كيف تتوازن "الراحل الكبير" في ظل هذا المناخ السياسي المتعثر والخانق؟
* نحن لا نبحث عن التوازن لنبقى قادرين على دخول هذا البلد أو ذاك، وندرك أنه غير مرحّب بأغانينا في عدد من الدول. لكن أرض الله واسعة ومواقع التواصل واسعة أيضاً. كذلك، نحن لا نبحث عن توازن لنؤمن تأشيرات مرور إلى هنا أو هناك، التوازن الذي قد نراعيه هو الذي يُجنّبنا المتاعب. التورية هي الحلَ. والحمد لله، رغم كلّ التردي الذي نعيش فيه، ما زال في لبنان قدر لا بأس به من الحريّة مقارنة مع ما حولنا.


- ما هو تقييم تجربتكم الفنية منذ أول عرض حتى الآن، وهل من جديد للفرقة؟
* حصدت الفرقة في السنوات الستّ الماضية قدراً من الإقبال الجماهيري والإعلامي لم نكن ننتظره. نعرف أن الأغنية السياسية هي التي ساعدت كثيراً في ذلك. قدمنا عروضاً بالعشرات في لبنان، وعروضاً في الأردن وفرنسا والنرويج وهولندا وسويسرا. في العام الماضي أصبنا بضربة كسرت ظهرنا، فقدنا عازف العود عماد حشيشو في حادث سير، وكانت أغنية "أيام العجب" مهداة له. نحاول منذ ذلك الحين أن نستعيد أنفاسنا، وهي مهمة ليست سهلةً نفسياً وتقنياً، لكننا نحاول.

المساهمون