حياة محتملة

27 سبتمبر 2014
حقيبة لأجل حياة جديدة محتملة (Getty)
+ الخط -
بعد انتهاء الحرب على غزة، دخلت المشفى لإجراء عملية جراحية عاجلة، جعلت حياتي مهدّدة مرّة ثانية. بعد انتهاء الجراحة تأمّلت ملياً في اقتراب الموت منّي، ما جعلني أتّخذ قرارات مهمّة. نظرتُ إلى شقتي الواسعة، فوجدت أني أحتفظ بأشياء كثيرة من ملابس وأدوات ومقتنيات، تحت مسمى الذكريات والحاجة لها في المستقبل، وتخيّلت أنّني لو متّ أثناء الحرب أو العملية الجراحية سأترك كلّ ما حرصت على اقتنائه وتعبت في المحافظة عليه خلفي ولن أستفيد منه حين أرحل. بدأت بخزانة ملابسي، فأفرغتها وبدأت فرز الملابس. أهديت الملابس التي لم تعد تناسب مقاسي لجارتي الفقيرة، الأنحف منّي، ففرحت بها. وتابعت الفرز حتى لم يبق في خزانتي سوى عدد قليل من الملابس التي أستعملها بشكل عملي. شعرت براحة كبيرة وبروح من التجدد تغزو مشاعري. كرّرت الأمر مع ملابس أولادي. قلت لهم: اختاروا الجيّد فقط. فعلنا ذلك مع الملابس الشتوية والصيفية، وهكذا نقصت خزانات الأولاد والبنات إلى النصف تقريباً، كما حدث مع خزانتي. توجّهت بالحماس نفسه إلى مطبخي وبدأت في فرز الأكواب والأطباق، وتساءلت ما جدوى أن يكون عندي ثلاثون كوباً للعصير ومثلها للشاي، وأنا لا أستخدم سوى خمسة من كلّ نوع لأفراد أسرتي، ولا يزورني أكثر من ضيف أو ضيفين في كلّ مرّة، وعلى فترات متباعدة. وهكذا بدأت أفرز أدوات الطعام والشراب وتخلصت من الأطباق التي لم يبق من كلّ نوع منها سوى طبق أو طبقين، ومن الأكواب التي لم يبق من كل نوع أو تشكيلة منها كأسا أو كأسين، وأبقيت فقط على أطباق بعدد أفراد أسرتي، وستة أطباق وستة أكواب وست كؤوس للضيوف فقط. فرغت خزانات المطبخ ولم يبق فيها سوى ما سأستخدمه فعلاً، وما سأخصّصه لضيوف محتملين، وحمل أولادي الأدوات الزائدة إلى جيراننا الذين هدم بيتهم واستأجروا بيتاً في الشارع المجاور لبيتهم. قمت بتلك الحملة مع الأغطية والوسائد والمناشف والبشاكير واحتفظت بالجيد وما يستخدم حالياً، ولم أُبقِ على "تلّ" من المناشف كما كانت تفعل أمي تحسّباً للمستقبل، بل تخلّصت من كلّ المناشف القديمة، وأبقيت مناشف بقدر استخدامنا الشخصي وعدداً قليلاً لضيوف محتملين أيضاً. شعرتُ أنّ شقتي أصبحت أوسع، خزانتي رحبة تنبئني بأيّام جميلة ومناسبات سعيدة، سوف أشتري لأجلها ملابس جديدة، أرتديها لمرّة واحدة، ثم أعلّقها في الخزانة وأتخلص منها بعد أن تنتهي "موضتها"، ومطبخي أصبح رحباً أكثر مما تخيّلت وأنا التي كنت أشتكي من ضيقه طول الوقت، وأصبح العثور على طبق مناسب للشوربة سهلاً جداً. سألتني ابنتي عن سبب ما قمت به، فقلت لها دونما صدق: الآن، إذا تجدّدت الحرب وخرجنا من البيت لن نخسر كثيراً، فلن يكون هناك أشياء كثيرة نفقدها كما حدث مع كلّ من هدمت بيوتهم، وربما لو فكّرنا بالهجرة والسفر خارج غزة، لن نحمل معنا سوى هذه الأشياء القليلة. فعلاً، ما تبقى لكل واحد يكفي لملء حقيبة سفر واحدة فقط. أليس ما فعلته تعبيراً عن حالة الخوف المبهمة من المستقبل المجهول الذي ينتظرنا في غزّة بعد انتهاء الحرب الثالثة، والتي كانت الأشدّ شراسة خلال ست سنوات... سرحت قليلاً، وشعرت باطمئنان غامض وهمست لنفسي: حقيبة لكلّ واحد منّا، ولكن ماذا عن الكتب؟ لديّ مكتبة تحتلّ جداراً كاملاً في إحدى الغرف؟ هل سأستطيع أن أفرز الكتب الثمينة والتي أمضيت سنوات في الحفاظ عليها؟ هنا فقط، شعرت أنّ هذه المهمّة مستحيلة...
دلالات
المساهمون