فلنبدأ من البدايات المبكّرة، عملك في الصحافة، في ملحق النهار مع أنسي الحاج والإذاعة في سنٍ صغيرة.
عملت في الإذاعة والصحافة، عملتُ في كل شيء كي أجني النقود وأنا صغيرة. كنتُ حين أقوم بالحوارات أكاد لا ألقي التحية، وأبدأ الأسئلة فوراً. لم أعمل مباشرة مع أنسي الحاج في الملحق، كنت أعمل في ملحق الرياضة والتسلية.
كان ملحق النهار أدبياً، فيه تحليلات أدبية لا أستطيع كتابة مثلها، إذ كان عقلي متجهاً إلى القصّة وقتذاك، وكنت أكتب التحقيقات على شكل قصص. حين كنت في جريدة النهار، كنت أعمل في "المقسّم 19" وكان قسماً خاصاً للنظر في مشاكل الناس. كنت أجمّع الأسئلة المتشابهة وأذهب إلى الوزارات المعنية لأجد أجوبة عنها.
هكذا اكتشفت وجود القوانين الطائفية في لبنان، مثلاً لو أن أستاذ مدرسة أراد الانتقال من الشمال إلى الجنوب، فإن الأمر يتوقّف على عدد المسيحيين مثلاً في منطقة ما، ولم أكن أصدق هذا البتة، وأسألهم كيف تقولون هذا؟ وأقول لمديري: ماذا ستقول للقارئ؟ أن ثمّة محاصصة طائفية؟ وكان يقول: أنت اكتبي الأسئلة فقط من دون أي تعليق، فما زلت صغيرة.
في ملحق الرياضة والتسلية، كتبت سلسلة مقالات لاقت صدى طيباً، كانت بعنوان: نساء مرتفعات، كنت أحاور المتميّزات، فحاورت أم كامل الأسعد مثلاً، ومهى عريضة، رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك، وأوّل طبيبة.
لفتني تعبير لديك عن بيروت، "كنت أقرأ الكلام المكتوب على اللافتات، وكان ثمّة كلام جميل يسحرني". هل قادتك الكلمات؟
كان بيتنا في حي رأس النبع، عند نهاية شارع بشارة الخوري، وكنت آخذ "السطليّة" لوالدي، وأمرّ بالأسواق. كان ثمة محل يبيع المدافئ والأضواء، وكان اسمه "النار والنور"، انسحرت بهاتين الكلمتين، أتذكر المنظر بدقّة، كان عمري 8 أو 9 سنوات. كذلك كان ثمة سينما اسمها "غومون بالاس"، كنت أقول لنفسي: آه كم هذا جميل، كلمات فرنسية، كانت تشعرني كما لو أنني في باريس. كنت أذهب أحياناً فقط من أجل التفرّج على هذه الأمكنة.
إذ بما أنني افتقدتُ أمّي حين كنت صغيرة، وكان أبي في عمله، فقد تُركت على سجيّتي تقريباً، تخيّلي في عمري وقتذاك كنت أذهب إلى منطقة الأسواق، سوق السمك، سوق الجزّارين، سوق الخضرة. وكنت دائماً أفكّر كما لو أنني لستُ التي تأخذ الطعام لوالدها، بل واحدة أخرى، كما لو أنني في حلم، كنت أنظر إلى كلّ ما حولي وأكتب في ذهني ما أرى.
في عمر المراهقة كنت تكتبين وكنت في مدرسة داخلية في صيدا، كانت شريكتك في الغرفة الفلسطينية ليلى خالد، خبّريني؟
وقتها كنت بدأت بمراسلة أنسي الحاج وكنت أكتب في الصفحة المخصصّة للطلاب في الجريدة، كنت أرسل خواطر تحت عنوان "إلى نان"، حيث حذفت حرف الحاء من اسمي، وكان أنسي ينشرها ويضعها في مكان بارزٍ من الصفحة.
ومرّة في بيروت رأيته نازلاً من السرفيس، فركضت نحوه، وقلت له أنا التي ترسل لك، فقال لي عليك الاستمرار بالكتابة، فسألته وماذا عليّ أن أقرأ، فأجاب كلّ ما يقع تحت يدك. كنت أرسل له رسائل، وحين كان يبادلني الرسائل كان يكتب على لسان مراهقة مثلي، تجنباً لإحراجي، فيحدثني مثلاً عن ثوبٍ جديدٍ ابتاعه! وينصحني بكتب لأقرأها. لم تكن ليلى خالد في صفّي، كانت تكبرني بسنوات قليلة. في المدرسة الداخلية، لم أتآلف مع البنات في غرفتي، وكنت أذهب باتجاه غرفة منزوية تطلّ على الحديقة، لأتفرّج أيام البرد على الحلزونات.
أتت ليلى وقالت لي: "يا شيخة، نتقاسم غرفتي فهي تطلّ أيضاً على الحديقة، وسيكون بمقدورك رؤية الحلزون"، وهذا ما حدث. كانت ترتدي ثياباً جميلةً جداً، وتنظر إلى نفسها في المرآة. كنّا ننزل سويةً إلى بيروت، نركب الحنطور من عين الحلوة إلى صيدا، ثم نذهب إلى بيروت لنتمشى ونذهب إلى السينما، وفي الطريق إلى صيدا ونحن على الحنطور كنّا نغنّي ونتخيّل أننا لسنا نحن، انسجمتُ جداً معها.
ثم ذهبتِ إلى مصر؟
نعم، تخرجت ليلى، وأنا لم أكن مجتهدة في المدرسة، ولا أحبّ الرياضيّات فأقنعتُ والدي السماح لي بالذهاب إلى مصر كي أدرس في القسم الأدبي. قبل والدي، الذي كان متديّناً لا متعصّباً. أذكر أنه طلب من صديقه الشيخ أن يكون شاهداً من أجل استخراج جواز سفري. وقتها أيضاً، لجأت لأنسي وخبّرته عن سفري ومصاريفه، فنصحني أن أكتب لجريدتي المحرر والأنوار، حوارات مع سياسيين عن أوّل قصّة حبّ في حياتهم.
فعلت عن طريق التحايل، إذ كنت أقول لكل ّواحد منهم إن صديقه الفلاني خبّرني عن حبّه الأول، فيفعل مثله ويخبّرني مع أن الأوّل رفض، وهكذا، حتّى تجمعت لديّ 7 أو 8 حوارات. وحين قبضت النقود، أخبرت أبي وكان فخوراً بي. هكذا ذهبت إلى مصر. هناك كتبتُ "انتحار رجل ميت" على لسان ذكر، لم يكن ذلك رائجاً، لكن تلك التعليقات التي كنتُ أسمعها عن كتابات ليلى بعلبكي وكوليت خوري، من أنهن لا يكتبن إلا عن حياتهن وأنهنّ سيتوقفن عن الكتابة بعد ذلك، كانت تؤلمني، فقلت في نفسي لا أريد تعليقاً مماثلاً، فاخترت الكتابة على لسان ذكرٍ واخترته ناضجاً عن قصد لئلا يقال إنني متخفّية وراءه.
وفي مصر، في فندق شيبرد، التقيت مصادفة ندى النصولي، التي كانت متزوجة من أمير عربي وهجرته لتتزوج سكرتيره، وكانا يتنقلان هرباً من بلد لآخر، سألتها أن أكتب عنها، فوافقت، هكذا كتبت : "ندى النصولي، الأميرة الهاربة"، أخذت المقال وكتابي الأوّل وذهبت إلى بيروت، لم ينشر كتابي، لكنني وجدت عن طريق المقال عملاً في مجلة الحسناء.
لفت نظري في كتاباتك، أن كثيراً من الشخصيّات اللبنانية لا تعيش في لبنان، تعيش في أفريقيا، في الخليج، في لندن، كما لو أنك تكتبين الشتات اللبناني الصامت. المكان أساسي في كتابتك؟
لا أعرف، يميل اللبنانيون إلى السفر والهجرة، كثيرٌ من أفراد عائلتي هاجروا لأفريقيا، وأنا أحبّ السفر من صغري، لا أستطيع الركون إلى مكان. اللبنانيون يميلون إلى تغيير حياتهم. صحيح المكان أساسي، في "مسك الغزال"، الصحراء شخصية بحدّ ذاتها. وفي "حكاية زهرة" حين تقول البطلة انظروا إلى الشوارع كانت آمنة مستقرّة، تبدو الآن وكأنها تنازع.
ثمة تلك القصّة الرقيقة "إسكندرية ذات مساء"، حيث تكتبين المكان بإيقاعين مختلفين؟
كتبتها فوراً بعد عودتي من مصر، أنا أكتب من الواقع والحياة اليومية.
إلى أي حدّ تأخذين من الواقع؟ كيف تعملين على الكتابة؟ وكيف تنقّحين؟
في البداية، تخطر فكرة في بالي، وحين تتردّد كثيراً في ذهني حد أني أفقد التركيز على أشي آخر عداها، أعلم وقتها أنها فكرة جيدة. أحسّها كما لو أنها بذرة انغرست في رأسي، فأجلس وابدأ بالكتابة. والبداية مهمّة جداً بالنسبة لي.
الجملة الأولى هي التي تفتح الباب، وبعدها أبدأ بتصوّر ما أريد كتابته، وألى أين أريد الذهاب. ثمّ تنهال الكتابة فعلاً، لكنني أتوقف وأبدأ بالبحث عن الصوت، الصوت الذي أريد كتابته. أحيانًا أجده فوراً، وأحياناً لا. مثلاً في "حكاية زهرة"، القناص هو الصادق الوحيد، إذ ما كان ممكناً إلا أن يقتل زهرة، هو قاتلٌ أصلاً، هذا صوته.
حين أبدأ بالكتابة لا أتوقف قبل 100 صفحة تقريباً، وأعيد النظر بعدها، كي أعرف إن كنت على الدرب الذي أريد، فأرى الفجوات والفراغ والركاكة ، فأبدأ بالتنقيح عن طريق القصّ واللصق، فعلاً لا مجازاً. أنا أحتفظ دوماً بمقصّ صغير وشريط لاصق. في مرّة التقيت بالكاتبة دونا تارت في إحدى الندوات، ونحن صديقتان، وكنّا معاً نحضّر مداخلتينا، حين رأتني أخرج المقصّ والشريط اللاصق، راحت تضحك، فهي تفعل الأمر عينه. وحين أنتهي من كلّ هذا، أدفع بالكتاب إلى النشر.
هل ثمّة مَن يقرأ المخطوط؟
نعم، صديقتي الفنّانة نجاح الطاهر، أعزّ صديقاتي، هي التي شجعتني على نشر "حكاية زهرة" وشاركتني بنفقات النشر حين رفضتْ دور النشر كلّها الرواية.
"حكايتي شرح يطول" جريئة، لكن عادة تكون الكتابة الجريئة قاسية، هنا الأمر مختلف، ثمة حنان فيها، لا قسوة، ثمّ إنك لا تكشفين أمّك فحسب، بل تكشفين نفسك أيضاً. وبذرتها على ما أظن، كانت في قصّة "السجادة العجمية"؟
لأنها صادقة، والدتي كتبتها، أنا دوّنتها. وصحيح بذرتها من تلك القصّة. وقتها كانت قد تمّت ترجمة بعض كتاباتي. اتصلت أمّي بي وقالت إنّ هذه القصّة ظلمتها، وسألتني: "لماذا لا تخبرين القصّة كاملةً، أبدو كما لو أنني سارقة".
حاولت أن أفسّر لها أن الأدب يختلف عن الواقع، وأنني لا أنقل الواقع بل أستلهمه.قالت لكن عليّ أن أفسّر. ثمّ أردفت جملةً لن أنساها: "هزمتني رصاصة وشقفة خشبة"، فقلت "ماذا؟" قالت "هزمني قلم الرصاص، لو أعرف الكتابة لما طلبتُ منك". فوافقتُ فوراً. كنّا على الشرفة في بيت رأس النبع، فوقفت كما لو أنّ أمامها منبراً وقالت الجملة الأولى : "حكايتي شرحٌ يطول".
من خلال الرواية، اكتشفتُ أنني كنت موجودة في حياتها مع محمّد، وحين كانت تخبرني التفاصيل كنت أحسّ كما لو أننا تبادلنا الأدوار، كأنني أنا أمّها، كما لو أنني أنا التي ولدتها. كانت تتصل بي لتذكر بعض التفاصيل، وتحرص على الكلام بالعربية الفصحى، كانت تريد للناس أن يعرفوا أنها "قارية وكاتبة" أي تقرأ وتكتب. علاقتها باللغة فريدة، أذكر مرّة أنني أخبرتها عن مخرجة دانماركية أرادت عمل فيلم عني وعنها وعن ابنتي، ظنّت أمّي أنها ـ وهي الشغوفة بالسينما ـ ستغدو من بطلات السينما، فأوضحت لها: "لا، سيكون عن حياتي وحياتك وحياة ابنتي"، فأجابت فوراً: "فيلمٌ وثائقي؟". قلتُ لها شكراً علّمتني كلمة.
الأمور اختلفت بين أيام أمّك وأيامك واليوم، اختلف المشهد تماماً في عالمنا العربي؟
نعم، اليوم الإعلام طاغٍ، الكل يريد الظهور في الإعلام. أنا بعيدة عن الجو الثقافي في بيروت، أنا أسكن في لندن. كنت أخيراً في معرض الكتاب، تهتمّ دار النشر بكتبي، وعندي قرّاء، وما زالت كتبي تُطبع. اليوم أظنّ أن العلاقات العامّة غدت مهمّة جداً. لكن حين أزور بيروت أرى التغيير، لم تكن الترجمة هاجساً بالنسبة لي في البداية، لكن اليوم أضحت كذلك بالنسبة للكتّاب وأنا مع الترجمة. وأريد للكتّاب العرب المرموقين أن ينتشروا في الغرب. سأخبرك أمراً، حين تُرجمت "حكايتي شرح يطول"، اتصلت بي الناشرة وقالت إنها تريدُ رؤيتي على الفور. سألتني كيف لم يقتلوا أمّك وهي فعلت ما فعلت؟ وبما أنها تركتك أنت وصغيرة، عليك أن تكتبي عن معاناتك بلسانك أنت لا بلسانها. رفضتُ طبعاً، قلت لها لا، هذه قصّة أمي.
أمّا في عالمنا العربي، فلم يلتفتوا البتة إلى "وجوب قتلها"، بل لفتهم ما كتبته عن الفقر المدقع، وجدوا في الأمر جرأة زائدة. هذا الفرق بين الشرق والغرب، يبيّن دور الأدب في تجسير الهوّة. إن أحداً ما كان سيقتل أمّي، لسنا قَتَلة. من هنا أرى الأدب ضرورياً جداً. الأدب ليس للترفيه والتسلية. في نشرات الأخبار كل يوم، انفجارات وعشرات القتلى، ثمة حروب في بلادنا، تأتي الرواية وتخبّر ماذا يحدث ولماذا؟ الأدب ليس للترفيه، هو يبيّن لك كيف يتحرّك المجتمع.
ألا ترين التطرّف في العالم العربي؟
نعم، لكن ليس المجتمع كلّه متطرفاً. الأمر متعدّد الأسباب؛ السياسة وخيبة الأمل، والهزائم، وفشلنا نحن. وهنا حيث أعيش، أرى الشباب المتطرفين يريدون التعبير عن أنفسهم بالعنف. لم يدرسوا الأديان في المدارس، بل من منابر أخرى. كنت في حديقة الهايد بارك، تغيّر المكان هنا أيضاً، في الماضي في زاوية الخطابات، كانت المواضيع سياسية واجتماعية. اليوم غدتْ كلّها تقريباً دينية. كان ثمة رجل دين إسلامي يخطب بعنف، أحسست نفسي معنية جداً بالأمر، وبدأت أناقشه، فصار يصرخ بالعربية: "مَن هذه المرأة الصينية؟".
وهكذا ولدت فكرة روايتي الأخيرة "عذارى لندنستان"، واستعرت لها من رواية سابقة شخصية هدى وصديقتها إيفون. تلك الحادثة أعادتني فوراً إلى بيئتي؛ كان الشيخ نجيب زهر الدين الذي يعلّمنا، يخاطبنا بكل رقّة، كان يقول إننا مثل اللآلئ النفيسة. اليوم يبدو مَن يدافع عن الدين همجيّاً تقريباً، إذ لا يفكر بما يقول.
حين توفي والدي طلبتُ من أقاربي البحث عن أستاذي الشيخ كي يقرأ القرآن. أتى الشيخ، وحين عرف من الأقارب أني تزوجت مسيحياً، قرأ سورة مريم. وحين انتهى، طلب رؤيتي، كنت مع النساء، ذهبت للقائه، قال لي كنت أعلم أنك ستنجحين إذ كنت مميزة جداً، إذ كنت تكثرين من الأسئلة. وهذا صحيح، حين كان يحدّثنا عن المهدي المنتظر، كنت دوماً أستوقفه لأسال: وماذا عن أمّه؟ لا بدّ أنها بحثت عنه، لعلّه خبّرها أنه سيرجع.
كان ملحق النهار أدبياً، فيه تحليلات أدبية لا أستطيع كتابة مثلها، إذ كان عقلي متجهاً إلى القصّة وقتذاك، وكنت أكتب التحقيقات على شكل قصص. حين كنت في جريدة النهار، كنت أعمل في "المقسّم 19" وكان قسماً خاصاً للنظر في مشاكل الناس. كنت أجمّع الأسئلة المتشابهة وأذهب إلى الوزارات المعنية لأجد أجوبة عنها.
هكذا اكتشفت وجود القوانين الطائفية في لبنان، مثلاً لو أن أستاذ مدرسة أراد الانتقال من الشمال إلى الجنوب، فإن الأمر يتوقّف على عدد المسيحيين مثلاً في منطقة ما، ولم أكن أصدق هذا البتة، وأسألهم كيف تقولون هذا؟ وأقول لمديري: ماذا ستقول للقارئ؟ أن ثمّة محاصصة طائفية؟ وكان يقول: أنت اكتبي الأسئلة فقط من دون أي تعليق، فما زلت صغيرة.
في ملحق الرياضة والتسلية، كتبت سلسلة مقالات لاقت صدى طيباً، كانت بعنوان: نساء مرتفعات، كنت أحاور المتميّزات، فحاورت أم كامل الأسعد مثلاً، ومهى عريضة، رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك، وأوّل طبيبة.
لفتني تعبير لديك عن بيروت، "كنت أقرأ الكلام المكتوب على اللافتات، وكان ثمّة كلام جميل يسحرني". هل قادتك الكلمات؟
كان بيتنا في حي رأس النبع، عند نهاية شارع بشارة الخوري، وكنت آخذ "السطليّة" لوالدي، وأمرّ بالأسواق. كان ثمة محل يبيع المدافئ والأضواء، وكان اسمه "النار والنور"، انسحرت بهاتين الكلمتين، أتذكر المنظر بدقّة، كان عمري 8 أو 9 سنوات. كذلك كان ثمة سينما اسمها "غومون بالاس"، كنت أقول لنفسي: آه كم هذا جميل، كلمات فرنسية، كانت تشعرني كما لو أنني في باريس. كنت أذهب أحياناً فقط من أجل التفرّج على هذه الأمكنة.
إذ بما أنني افتقدتُ أمّي حين كنت صغيرة، وكان أبي في عمله، فقد تُركت على سجيّتي تقريباً، تخيّلي في عمري وقتذاك كنت أذهب إلى منطقة الأسواق، سوق السمك، سوق الجزّارين، سوق الخضرة. وكنت دائماً أفكّر كما لو أنني لستُ التي تأخذ الطعام لوالدها، بل واحدة أخرى، كما لو أنني في حلم، كنت أنظر إلى كلّ ما حولي وأكتب في ذهني ما أرى.
في عمر المراهقة كنت تكتبين وكنت في مدرسة داخلية في صيدا، كانت شريكتك في الغرفة الفلسطينية ليلى خالد، خبّريني؟
وقتها كنت بدأت بمراسلة أنسي الحاج وكنت أكتب في الصفحة المخصصّة للطلاب في الجريدة، كنت أرسل خواطر تحت عنوان "إلى نان"، حيث حذفت حرف الحاء من اسمي، وكان أنسي ينشرها ويضعها في مكان بارزٍ من الصفحة.
ومرّة في بيروت رأيته نازلاً من السرفيس، فركضت نحوه، وقلت له أنا التي ترسل لك، فقال لي عليك الاستمرار بالكتابة، فسألته وماذا عليّ أن أقرأ، فأجاب كلّ ما يقع تحت يدك. كنت أرسل له رسائل، وحين كان يبادلني الرسائل كان يكتب على لسان مراهقة مثلي، تجنباً لإحراجي، فيحدثني مثلاً عن ثوبٍ جديدٍ ابتاعه! وينصحني بكتب لأقرأها. لم تكن ليلى خالد في صفّي، كانت تكبرني بسنوات قليلة. في المدرسة الداخلية، لم أتآلف مع البنات في غرفتي، وكنت أذهب باتجاه غرفة منزوية تطلّ على الحديقة، لأتفرّج أيام البرد على الحلزونات.
أتت ليلى وقالت لي: "يا شيخة، نتقاسم غرفتي فهي تطلّ أيضاً على الحديقة، وسيكون بمقدورك رؤية الحلزون"، وهذا ما حدث. كانت ترتدي ثياباً جميلةً جداً، وتنظر إلى نفسها في المرآة. كنّا ننزل سويةً إلى بيروت، نركب الحنطور من عين الحلوة إلى صيدا، ثم نذهب إلى بيروت لنتمشى ونذهب إلى السينما، وفي الطريق إلى صيدا ونحن على الحنطور كنّا نغنّي ونتخيّل أننا لسنا نحن، انسجمتُ جداً معها.
ثم ذهبتِ إلى مصر؟
نعم، تخرجت ليلى، وأنا لم أكن مجتهدة في المدرسة، ولا أحبّ الرياضيّات فأقنعتُ والدي السماح لي بالذهاب إلى مصر كي أدرس في القسم الأدبي. قبل والدي، الذي كان متديّناً لا متعصّباً. أذكر أنه طلب من صديقه الشيخ أن يكون شاهداً من أجل استخراج جواز سفري. وقتها أيضاً، لجأت لأنسي وخبّرته عن سفري ومصاريفه، فنصحني أن أكتب لجريدتي المحرر والأنوار، حوارات مع سياسيين عن أوّل قصّة حبّ في حياتهم.
فعلت عن طريق التحايل، إذ كنت أقول لكل ّواحد منهم إن صديقه الفلاني خبّرني عن حبّه الأول، فيفعل مثله ويخبّرني مع أن الأوّل رفض، وهكذا، حتّى تجمعت لديّ 7 أو 8 حوارات. وحين قبضت النقود، أخبرت أبي وكان فخوراً بي. هكذا ذهبت إلى مصر. هناك كتبتُ "انتحار رجل ميت" على لسان ذكر، لم يكن ذلك رائجاً، لكن تلك التعليقات التي كنتُ أسمعها عن كتابات ليلى بعلبكي وكوليت خوري، من أنهن لا يكتبن إلا عن حياتهن وأنهنّ سيتوقفن عن الكتابة بعد ذلك، كانت تؤلمني، فقلت في نفسي لا أريد تعليقاً مماثلاً، فاخترت الكتابة على لسان ذكرٍ واخترته ناضجاً عن قصد لئلا يقال إنني متخفّية وراءه.
وفي مصر، في فندق شيبرد، التقيت مصادفة ندى النصولي، التي كانت متزوجة من أمير عربي وهجرته لتتزوج سكرتيره، وكانا يتنقلان هرباً من بلد لآخر، سألتها أن أكتب عنها، فوافقت، هكذا كتبت : "ندى النصولي، الأميرة الهاربة"، أخذت المقال وكتابي الأوّل وذهبت إلى بيروت، لم ينشر كتابي، لكنني وجدت عن طريق المقال عملاً في مجلة الحسناء.
لفت نظري في كتاباتك، أن كثيراً من الشخصيّات اللبنانية لا تعيش في لبنان، تعيش في أفريقيا، في الخليج، في لندن، كما لو أنك تكتبين الشتات اللبناني الصامت. المكان أساسي في كتابتك؟
لا أعرف، يميل اللبنانيون إلى السفر والهجرة، كثيرٌ من أفراد عائلتي هاجروا لأفريقيا، وأنا أحبّ السفر من صغري، لا أستطيع الركون إلى مكان. اللبنانيون يميلون إلى تغيير حياتهم. صحيح المكان أساسي، في "مسك الغزال"، الصحراء شخصية بحدّ ذاتها. وفي "حكاية زهرة" حين تقول البطلة انظروا إلى الشوارع كانت آمنة مستقرّة، تبدو الآن وكأنها تنازع.
ثمة تلك القصّة الرقيقة "إسكندرية ذات مساء"، حيث تكتبين المكان بإيقاعين مختلفين؟
كتبتها فوراً بعد عودتي من مصر، أنا أكتب من الواقع والحياة اليومية.
إلى أي حدّ تأخذين من الواقع؟ كيف تعملين على الكتابة؟ وكيف تنقّحين؟
في البداية، تخطر فكرة في بالي، وحين تتردّد كثيراً في ذهني حد أني أفقد التركيز على أشي آخر عداها، أعلم وقتها أنها فكرة جيدة. أحسّها كما لو أنها بذرة انغرست في رأسي، فأجلس وابدأ بالكتابة. والبداية مهمّة جداً بالنسبة لي.
الجملة الأولى هي التي تفتح الباب، وبعدها أبدأ بتصوّر ما أريد كتابته، وألى أين أريد الذهاب. ثمّ تنهال الكتابة فعلاً، لكنني أتوقف وأبدأ بالبحث عن الصوت، الصوت الذي أريد كتابته. أحيانًا أجده فوراً، وأحياناً لا. مثلاً في "حكاية زهرة"، القناص هو الصادق الوحيد، إذ ما كان ممكناً إلا أن يقتل زهرة، هو قاتلٌ أصلاً، هذا صوته.
حين أبدأ بالكتابة لا أتوقف قبل 100 صفحة تقريباً، وأعيد النظر بعدها، كي أعرف إن كنت على الدرب الذي أريد، فأرى الفجوات والفراغ والركاكة ، فأبدأ بالتنقيح عن طريق القصّ واللصق، فعلاً لا مجازاً. أنا أحتفظ دوماً بمقصّ صغير وشريط لاصق. في مرّة التقيت بالكاتبة دونا تارت في إحدى الندوات، ونحن صديقتان، وكنّا معاً نحضّر مداخلتينا، حين رأتني أخرج المقصّ والشريط اللاصق، راحت تضحك، فهي تفعل الأمر عينه. وحين أنتهي من كلّ هذا، أدفع بالكتاب إلى النشر.
هل ثمّة مَن يقرأ المخطوط؟
نعم، صديقتي الفنّانة نجاح الطاهر، أعزّ صديقاتي، هي التي شجعتني على نشر "حكاية زهرة" وشاركتني بنفقات النشر حين رفضتْ دور النشر كلّها الرواية.
"حكايتي شرح يطول" جريئة، لكن عادة تكون الكتابة الجريئة قاسية، هنا الأمر مختلف، ثمة حنان فيها، لا قسوة، ثمّ إنك لا تكشفين أمّك فحسب، بل تكشفين نفسك أيضاً. وبذرتها على ما أظن، كانت في قصّة "السجادة العجمية"؟
لأنها صادقة، والدتي كتبتها، أنا دوّنتها. وصحيح بذرتها من تلك القصّة. وقتها كانت قد تمّت ترجمة بعض كتاباتي. اتصلت أمّي بي وقالت إنّ هذه القصّة ظلمتها، وسألتني: "لماذا لا تخبرين القصّة كاملةً، أبدو كما لو أنني سارقة".
حاولت أن أفسّر لها أن الأدب يختلف عن الواقع، وأنني لا أنقل الواقع بل أستلهمه.قالت لكن عليّ أن أفسّر. ثمّ أردفت جملةً لن أنساها: "هزمتني رصاصة وشقفة خشبة"، فقلت "ماذا؟" قالت "هزمني قلم الرصاص، لو أعرف الكتابة لما طلبتُ منك". فوافقتُ فوراً. كنّا على الشرفة في بيت رأس النبع، فوقفت كما لو أنّ أمامها منبراً وقالت الجملة الأولى : "حكايتي شرحٌ يطول".
من خلال الرواية، اكتشفتُ أنني كنت موجودة في حياتها مع محمّد، وحين كانت تخبرني التفاصيل كنت أحسّ كما لو أننا تبادلنا الأدوار، كأنني أنا أمّها، كما لو أنني أنا التي ولدتها. كانت تتصل بي لتذكر بعض التفاصيل، وتحرص على الكلام بالعربية الفصحى، كانت تريد للناس أن يعرفوا أنها "قارية وكاتبة" أي تقرأ وتكتب. علاقتها باللغة فريدة، أذكر مرّة أنني أخبرتها عن مخرجة دانماركية أرادت عمل فيلم عني وعنها وعن ابنتي، ظنّت أمّي أنها ـ وهي الشغوفة بالسينما ـ ستغدو من بطلات السينما، فأوضحت لها: "لا، سيكون عن حياتي وحياتك وحياة ابنتي"، فأجابت فوراً: "فيلمٌ وثائقي؟". قلتُ لها شكراً علّمتني كلمة.
الأمور اختلفت بين أيام أمّك وأيامك واليوم، اختلف المشهد تماماً في عالمنا العربي؟
نعم، اليوم الإعلام طاغٍ، الكل يريد الظهور في الإعلام. أنا بعيدة عن الجو الثقافي في بيروت، أنا أسكن في لندن. كنت أخيراً في معرض الكتاب، تهتمّ دار النشر بكتبي، وعندي قرّاء، وما زالت كتبي تُطبع. اليوم أظنّ أن العلاقات العامّة غدت مهمّة جداً. لكن حين أزور بيروت أرى التغيير، لم تكن الترجمة هاجساً بالنسبة لي في البداية، لكن اليوم أضحت كذلك بالنسبة للكتّاب وأنا مع الترجمة. وأريد للكتّاب العرب المرموقين أن ينتشروا في الغرب. سأخبرك أمراً، حين تُرجمت "حكايتي شرح يطول"، اتصلت بي الناشرة وقالت إنها تريدُ رؤيتي على الفور. سألتني كيف لم يقتلوا أمّك وهي فعلت ما فعلت؟ وبما أنها تركتك أنت وصغيرة، عليك أن تكتبي عن معاناتك بلسانك أنت لا بلسانها. رفضتُ طبعاً، قلت لها لا، هذه قصّة أمي.
أمّا في عالمنا العربي، فلم يلتفتوا البتة إلى "وجوب قتلها"، بل لفتهم ما كتبته عن الفقر المدقع، وجدوا في الأمر جرأة زائدة. هذا الفرق بين الشرق والغرب، يبيّن دور الأدب في تجسير الهوّة. إن أحداً ما كان سيقتل أمّي، لسنا قَتَلة. من هنا أرى الأدب ضرورياً جداً. الأدب ليس للترفيه والتسلية. في نشرات الأخبار كل يوم، انفجارات وعشرات القتلى، ثمة حروب في بلادنا، تأتي الرواية وتخبّر ماذا يحدث ولماذا؟ الأدب ليس للترفيه، هو يبيّن لك كيف يتحرّك المجتمع.
ألا ترين التطرّف في العالم العربي؟
نعم، لكن ليس المجتمع كلّه متطرفاً. الأمر متعدّد الأسباب؛ السياسة وخيبة الأمل، والهزائم، وفشلنا نحن. وهنا حيث أعيش، أرى الشباب المتطرفين يريدون التعبير عن أنفسهم بالعنف. لم يدرسوا الأديان في المدارس، بل من منابر أخرى. كنت في حديقة الهايد بارك، تغيّر المكان هنا أيضاً، في الماضي في زاوية الخطابات، كانت المواضيع سياسية واجتماعية. اليوم غدتْ كلّها تقريباً دينية. كان ثمة رجل دين إسلامي يخطب بعنف، أحسست نفسي معنية جداً بالأمر، وبدأت أناقشه، فصار يصرخ بالعربية: "مَن هذه المرأة الصينية؟".
وهكذا ولدت فكرة روايتي الأخيرة "عذارى لندنستان"، واستعرت لها من رواية سابقة شخصية هدى وصديقتها إيفون. تلك الحادثة أعادتني فوراً إلى بيئتي؛ كان الشيخ نجيب زهر الدين الذي يعلّمنا، يخاطبنا بكل رقّة، كان يقول إننا مثل اللآلئ النفيسة. اليوم يبدو مَن يدافع عن الدين همجيّاً تقريباً، إذ لا يفكر بما يقول.
حين توفي والدي طلبتُ من أقاربي البحث عن أستاذي الشيخ كي يقرأ القرآن. أتى الشيخ، وحين عرف من الأقارب أني تزوجت مسيحياً، قرأ سورة مريم. وحين انتهى، طلب رؤيتي، كنت مع النساء، ذهبت للقائه، قال لي كنت أعلم أنك ستنجحين إذ كنت مميزة جداً، إذ كنت تكثرين من الأسئلة. وهذا صحيح، حين كان يحدّثنا عن المهدي المنتظر، كنت دوماً أستوقفه لأسال: وماذا عن أمّه؟ لا بدّ أنها بحثت عنه، لعلّه خبّرها أنه سيرجع.