حلب جوهرة التراث الموءودة

20 يناير 2017
دمار (جورج أورفاليان/ فرانس برس)
+ الخط -
لا المجتمع الدولي مجتمعاً في الأمم المتحدة، جمعية عامة ومجلس الأمن، ولا الرأي العام العالمي نجحا في وقف تدمير مدينة حلب التي وضعت "الأونيسكو" أسواقها القديمة المسقوفة، والتي تنهض على مساحة 16 هكتاراً من الأرض وتمتد على مسافة 16 كلم ما يجعل منها أكبر سوق مسقوف في العالم ...على لائحة التراث العالمي ووصفتها بأنها لؤلؤة تراث البشرية. الضغوط والنداءات الإنسانية والثقافية لم ترفع عن رقبتها سيف البطش الدموي. وعليه عانت المدينة الاستباحة الإجرامية السافرة. ما جعلها صبح مساء تتعرض لعصف القصف الجوي والبرّي دون مبرر أو رادع مادي أو أخلاقي. والحصيلة أن هذه المدينة عندما باتت ميدان تجريب للرمايات أصبحت على قاب قوسين أو أدنى من الكارثة المدمرة. كارثة تواصلت حتى بلغت مداها بإرادة روسية – ايرانية سورية. بالتأكيد الكارثة ستستمر في سلم لا يشبه السلم من خلال الإصرار من جانب "المنتصرين" على نزع نسغ الحياة والروح من مدينة ميزتها أنها كانت دوماً مضمّخة بعبق التاريخ والتنوع الذي لا يفتح سوى على التكامل الإبداعي.

من أصل تعدادها الذي يفوق الـ4.5 ملايين نسمة كمحافظة ومليونين ونصف المليون كمدينة لم يتبق من سكانها سوى عدة مئات ألوف بعد المذبحة التي نُفّذت في البشر والحجر على حد سواء. وحلب كانت دوماً في مصاف المدن العواصم مهما كان شكل الدولة التي تتبع لها. خلال العهد العثماني كانت تصنف بأنها المدينة الثالثة بعد استنبول والقاهرة. ومع قيام الدولة السورية "الحديثة" وُضعت في المرتبة الثانية بعد دمشق، ولكنها ظلّت العاصمة الاقتصادية الأولى عبر مجمعاتها الصناعية التي تتراوح بين الآليات والمحركات والكهربائيات والالكترونيات والكيماويات والنسيج والمصاغ والمستهلكات البسيطة و... القائمة تطول.

لكن غنى حلب لم يتأتَ من كل ما سبق بما فيه كونها كانت المحطة الأخيرة في طريق الحرير الشهير. غنى حلب بالأساس يصدر عن المخزون الحضاري للجماعات التي أقامت في هذه المدينة، فتفاعلت مع سواها، وقدمت تراثاً عربياً لا يصعب تبيان خصوصية هويته بدقة، وإن كان يعبّر عن الشخصية الحلبية بفرادتها المميزة. تراث ساهم في صنعه خليط من العرب وغير العرب وأناس من عقائد ومشارب مختلفة بينهم المسلمون والمسيحيون والأكراد واليهود والأرمن والتركمان والأتراك والشركس وغيرهم من الشعوب التي قصدت أو عبرت المدينة فاستطابت العيش في ربوعها.

الآن يمكن القول إن القصف الذي أصاب أسواقها ومبانيها، مزق بالأصل هذا النسيج الاجتماعي المتميز شر تمزيق، ما جعل أبناءها يهيمون على وجوههم في مختلف الدول والنواحي.
لكن حلب التي مرت عليها تكراراً سيول جحافل الغزاة المتلاحقة باعتبارها واحدة من أقدم مدن تاريخ الإنسان أجادت دوماً لعبة تحدي النهوض ثانية... وستفعل ما تعودته بالتأكيد.

(أستاذ جامعي)

دلالات
المساهمون