في روايته "Notre-Dame de Paris" التي نُشرت عام 1831 وتُرجمت إلى العربية بعنوان "أحدب نوتردام"، كتب فيكتور هوغو: "شخصَت العيون إلى أعلى الكاتدرائية، حيث التصقت النظرات بمشهد استثنائي، ففي أعلى الرواق وفوق النافذة القزحية التي تحسبها معلّقة في السماء، كانت لظى النيران تتطاول بين البرجين ناثرة زخات من الشرر.. لهبٌ مضطرب وغاضب، ألسنة محمّلة بالدخان أخذت تراقص الهواء المتفحِّم". ثم يضيف: "نحتت النيران من الأشياء المحترقة تماثيل داكنة لشياطين تجلّت فيها كل معاني البشاعة".
يُخيَّل لمن يقرأ النص بأنه يصف الحريق الذي اندلع في الكاتدرائية قبل أيام قليلة؛ فما تخيّله الروائي الفرنسي، قبل قرابة قرنَين، تجسّد بعد مغيب شمس الخامس عشر من نيسان/ أبريل الجاري، حين التهمت ألسنة النيران برج الكاتدرائية التي بُنيت في القرن الثالث عشر ميلادي.
صدم المشهد الفرنسيين والعالم بأسره بسبب تضرُّر أحد أبرز المعالم الأثرية في باريس وأوروبا. غير أن الآمال انتعشت بعدما تنافس أثرياء ورجال أعمال على التبرُّع بمبالغ ضخمة لترميمها، كما نُظّمت حملات تبرُّع عبر الإنترنت، وساهمت في ذلك دول عربية وإسلامية.
بعد الحادثة التي اعتبرها الفرنسيون كارثةً وطنيةً، حقّقت مبيعات رواية هيغو أرقاماً قياسية على موقع "أمازون"، بينما راح رسّامون محترفون وهواة من بلدان مختلفة يرسمون المبنى الأثري وينشرون أعمالهم الفنّية على موقع التواصل الاجتماعي تعبيراً عن تضامنهم.
وأمام رصيف الكاتدرائية المطل على نهر السين، عزف الموسيقار الفرنسي غوتيه كابيسون مقطوعةً موسيقية تكريماً لفريق الإطفاء ولبعث رسالة أمل، وفق تعبيره. في المكان نفسه، تجمّع عازفون ورسّامون مشكلين فسيفساء فنية امتزجت معها أصوات المصلّين والسياح الذين تدفّقوا إلى البهو الخارجي للمبنى الذي نجت عمارته الحجرية وما بداخله من لوحات وتماثيل وقطع تاريخية لا تُقدَّر بثمن.
شكّلت الكاتدرائية فضاءً للعديد من الأفلام التي أخرجها فرنسيون وأجانب، بل إنها تكاد تظهر في كل الأعمال السينمائية التي تجري أحداثها في باريس. ومنذ زمن السينما الصامتة، اقتبس السينمائيون رواية هيغو بين سنتَي 1905 و1922، ثمّ جسّد الممثل الأميركي لون شاني (1883 – 1930) شخصية كازيمودو عام 1923، قبل أن يجسّدها مواطنه تشارلز لوتون (1988 – 1960) عام 1939، وبعدهما الإيطالي أنتوني كوين (1915 – 2001) في فيلم فرنسي إيطالي أخرجه جون ديلانوي عام 1956.
وفي 1996، أنتجت شركة "ديزني فيلماً كرتونياً، مع تعديل في القصة حتى تكون مناسبةً للأطفال. لاحقاً، أخرج المجري بيتر ميداك فيلم "كازيمودو نوتردام" من بطولة سلمى الحايك عام 1997، واقتبس الفرنسي باتريك تيمسيت القصة في فيلمه الكوميدي "كازيمودو باريس" عام 1999.
ومن بين الأعمال السينمائية التي تظهر فيها الكنيسة فيلم وودي آلن "منتصف الليل في باريس" (2011). وقبل ذلك، تخاطب الممثّلة جولي دالبي الممثل أثان هاوك وهي تشير إلى الكاتدرائية قائلة: "علينا التفكير في أن نوتردام ستختفي يوماً ما"، وذلك فيلم فيلم "قبل الغروب" (2009) لـ ريشارد لانكلاتر.
اقتُبست قصة أحدب نوتردام أيضاً في رقصات الباليه والأوبرا بدءاً من القرن التاسع عشر. ويتذكّر الجمهور الفرنسي عرض الكوميديا الموسيقية التي ألّفها الشاعر لوك بلاموندو ووزّعها الموسيقي ريشارد كوكسيونت عام 1998، والتي مثلت فيها المغنية هيلان سيغارا والمغني باتريك فيوري، وقد أعلن الفريق الفني عن إعادة تجسيد هذا العمل الموسيقي عقب حريق الكاتدرائية مؤخراً.
وتغنّى الكثير من الشعراء الفرنسيّين والأجانب بهذا المعلم الأثري بعمارته القوطية وعلاقته الروحية بسكّان باريس وزوّارها، وتمازج أصوات الأجراس مع خرير مياه السين؛ ففي سنة 1832، كتب الشاعر جيرار دو نارفال قصيدة طويلة عنها، كما أصدر الشاعر ثيوفيل غوتييه ديوانه "نوتردام" (1836)، وألهمت الشاعر بول كلودار في ديوانه "اعترافي" (1913)، واتخذها الشاعر السوريالي لويس أراغون رمزاً للمقاومة ضد النازية ولمواجهة مآسي الحرب في قصيدته "باريس 1942". لحّن القصيدة، حينها، الموسيقي الإيطالي لينو ليوناردي وأدتها المغنية الفرنسية مونيك موريلي، ثم أعاد غناءها فنانون آخرون. كما تغنّت المطربة الفرنسية إديث بياف بكاتدرائية نوتردام بصوتها المتفرّد، إذ تنشد في إحدى أغنياتها: "هنري الرابع، بصدئه الأخضر وبكأسه الرمادي يحب سهم الكنيسة القديم الذي يلعق سقف باريس الرمادي".
وفي الفن التشكيلي، رسّم فنّانون، بمختلف مدارسهم وأجيالهم، الكاتدرائية أو جعلوها خلفيةً للوحاتهم، مثل لوحة أوجين ديلاكروا "الحرية تقود الشعب" (1830)، ولوحتَي وليام بوجيرو "وحيدون في العالم" (1867) و"البوهيمية" (1890).
أما الرسّامون الأجانب، فنذكر من بينهم الهولندي جوان بارثولد جوكينغ الذي رسم عام 1852 عمله "منظر نوتردام من جسر لاتورنال"، كما شكّلت موضوعاً لعمل الفنان الأمريكي توماس بيفور ميتيارد "نوتردام الليل" (1892).
ورسم الكنيسة، أيضاً، عدد من أبرز فناني القرن العشرين، ومن بينهم الرسام والنحات الفرنسي هنري ماتيس الذي اشتغل عليها مرتين في العام 1941، ورسمها بابلو بيكاسو عام 1945، كما شكلت محور لوحات الرسام الفرنسي ماكسيم لوس، ومواطنه غوستاف لوازو، والأميركي إدوارد هوبر وغيرهم.
إضافة إلى ذلك، لا تزال الساحات المحيطة بنوتردام تشكّل ورشات للفنانين المتجولين، يستلهمون منها إبداعاتهم التي تدرّ عليهم دخلاً مادياً في المنطقة التي لا تخلو من السيّاح.
* كاتبة جزائرية مقيمة في باريس