هي المناسبة التي بات ينتظرها محبو اللعبة وبالأخص منهم متابعو "الليجا" (الدوري الإسباني)، الذين هم اليوم بمئات الملايين حول العالم، منذ أن صار النقل التلفزيوني المباشر متوفراً على نطاق واسع، وجزءاً أساسياً من الاقتصاد الرياضي.
بحميمية وشغف يقول يوسف سيف "الكلاسيكو"، بوصفه لحظة من سعادة وبهجة. وهو هناك في قلب الملعب، أكان على أرض مدريد "البرنابيو"، أو على أرض برشلونة "الكامب نو". ينتشي وهو يتابع مجريات اللعب، فيردد مراراً :"الله، الله..". وهي نشوة تسري عبر عشرات الملايين من الشاشات على امتداد العالم العربي كله، وتنتشر من خلالها حماسة الفرجة والتشجيع.
منذ العام 2003 بدأت "الجزيرة الرياضية" في نقل الدوري الإسباني، ومع العام 2009، صارت هي القناة الرياضية الشاملة، قبل أن يتغير اسمها مع مطلع هذا العام وتصبح "بي. إن سبورت". وطوال عقد من الزمن انتظمت فيها مشاهدة كرة القدم العالمية وتركزت في أقنيتها العديدة، أي تحولت إلى روزنامة واضحة وممنهجة وثابتة. هذا ما أتاح نشوء تقاليد المشاهدة والمتابعة.
وهكذا ولد "جمهور" عربي مثابر، بعد أن ارتقت العلاقة مع المباريات الأوروبية والعالمية إلى مستوى أبعد من "النقل المباشر"، إذ بات المعلّقون العرب في قلب الملعب، وكذلك استديو التحليل وضيوفه من نجوم اللعبة وخبرائها. بمعنى آخر، تآلف المشاهدون المتكاثرون مع تلك الملاعب، وحفظوا أسماءها وأسماء اللاعبين والمدربين، وبدأت تتراكم ذاكرة عامة بين المشاهدين وبين برامج المباريات ومواعيدها وأحداثها. ذاكرة تتوطد من موسم إلى آخر.
هكذا، ما عادت المباريات التي تجري في انكلترا أو اسبانيا أو إيطاليا وألمانيا وفرنسا.. "مباريات أجنبية" طالما أن تلفزيوننا العربي هذا "شريك" أكثر مما هو وسيط في صنع الحدث. وطالما أننا أصبحنا واثقين من ديمومة البث ومعتادين على القنوات الثابتة التي ستنقل المباريات. صرنا نعرف ماذا سنشاهد يومي السبت والأحد (الدوريات الأوروبية الممتازة) أو في ليلتي الثلاثاء والأربعاء (دوري أبطال أوروبا)، عدا عن المناسبات الكبرى (المونديال مثلاً).
في غضون عقد، تربى جيل عربي يشعر أنه جزء لا يتجزأ من جمهور "الكلاسيكو"، وهم أيضاً منقسمون بين مدريديين وبرشلونيين، بعصبية حقيقية وشعور راسخ بالانتماء وعاطفة جارفة. وساهمت سهولة السفر لسكان شمال أفريقيا إلى أوروبا، والثقافة السياحية التي بات الخليجيون خصوصاً يمتلكونها، عدا عن المهاجرين العرب في تلك البلدان، في أن يكون للعرب حصتهم الوافرة من جمهور الملعب نفسه. حتى أن مشجعي برشلونة الأكثر وفاء وبروزاً هم اليابانيون والعرب.
حتى الإعلانات التلفزيونية العربية المواكبة للمباريات صارت تصنع من مادة تلك العلاقة بين الجمهور العربي وأنديته الأوروبية، إذ ليس غريباً أن نشاهد "ميسي" في إعلان عربي، أو أن نشاهد على أرض الملعب لوحة إعلانية باللغة العربية.
ظهر في العقدين الأخيرين، جمهور كرة القدم التلفزيونية من نوع جديد، جمهور المقاهي والمحلات الشعبية والمطاعم، التي تضع شاشات عملاقة تنقل البثّ الحي للمباريات. أصبح هذا تقليد واسع النطاق، مناسبة اجتماعية للشباب العربي. لحظة من حماسة وتشويق وشعور بالانتماء ومتعة عامة وإحساس بالمشاركة مع العالم بحدث معولم، فيه الغبطة والإنغماس بصراع رمزي وتعصب غير مؤذٍ، ومُعاركة من دون عنف، وهزيمة أو انتصار بلا دماء ولا خراب.
في مناسبة "الكلاسيكو"، تشتعل حرب التشجيع والمناكفة على "الفيسبوك"، وتطغى على الفضاء الافتراضي الكتابات التي تستلهم أساليب "المحللين" ونظرياتهم، الذين اعتاد الجمهور الاستماع إليهم عبر "الجزيرة الرياضية" (المتحولة "بي. إن سبورت"). فهؤلاء أيضاً صاروا نجوماً وأكثر شعبية من "المحللين" السياسيين التلفزيونيين. بل ربما كان لتقاليد التلفزيون الرياضي الكروي دوراً فاعلاً في التراجع الواضح بشعبية البرامج الحوارية السجالية السياسية، التي يأس الناس وضجروا منها في السنوات الأخيرة.
على امتداد العالم العربي، سنرى في الشوارع اليافعين والشبان يلبسون قميص "ميسي" أو "رونالدو". هذان القميصان هما أكثر غرضين منتشرين في بلادنا، بعد الهاتف الخلوي ربما. علامة مشتركة من أحياء نواكشوط الرملية إلى مخيمات غزة البائسة وأزقة بغداد المهملة وحواري القاهرة الفوضوية وحتى على خطوط التماس في حلب..
عدا عن حب كرة القدم، وعدا عن أفاعيل التقدم التقني وانتشار البثّ الفضائي، ثمة بالتأكيد أسباب أخرى لهذا الشغف العربي الجارف وهذا التوطد الكبير لجمهور مشاهدي "الكلاسيكو" (واللعب الأوروبي عموماً)، لعلها تكمن في إحساس جمهورنا العربي بما ينقصه، بما يتعطش إليه: انتظام الحياة المطمئنة واستقرارها، وخلو بال مجتمعه من الخوف على المصير أو مخاطر الحرب الأهلية أو الفقر والقمع والكبت.
هناك تقدم لنا الملاعب عياناً ودلالة على "راحة" اجتماعية، وسلاسة سياسية، وطمأنينة اقتصادية.. بل وأيضاً تقدم نموذج المدينة، قوتها واكتمال هويتها وتناغم مكوناتها وقدرتها على صنع رموزها ومؤسساتها المدنية والأهلية ونواديها الخاصة وعصبيتها "المدينية"، بل أيضاً قدرتها على صقل أجسام مواطنيها، وكيف أن الملعب هو التجسيد الفعلي لاجتماع طبقات السكان ومشاربهم واشتراكهم سوية في طقس "سياسي" سلمي وتنافسي وتكاملي مع المدن الأخرى في البلد الواحد، ثم في القارة بأكملها. إنه "السيستام" الأوروبي في أوضح تجلياته.
هذا التطلع ظهرت معانيه، أثناء الثورات العربية، إذ انخرط مشجعو كرة القدم فيها، وكانوا في طليعة التظاهرات، خصوصاً في مصر مع "الألتراس" الثوري، الذي كان هو أقصى يسار الثورة. كذلك كان جمهور الملاعب السورية الذي غالباً ما كان قبل الثورة هو الذي يصطدم برجال المخابرات (اندلعت أوّل انتفاضة عام 2004 في ملعب القامشلي). عدا عن أن معظم مباريات كرة القدم في العالم العربي تجرى من دون جمهور بقرار أمني.
نحن نتطلع ونشاهد كرة قدم، لكن أيضاً لنرى أفاعيل القيم والأخلاقيات والأنظمة السياسية وقوانين الحرية، التي تعمل كلها سوية، باتقان، من أجل صنع تلك الفرجة الحضارية المبهجة. يكفي أنّ نشاهد الملاعب التي يختلط فيها الجنسان بلا أيّ تحفظ أو خوف، أن نرى العائلات بأطفالها وشيوخها، أبناء الطبقة العاملة ونجوم المجتمع، مشاهير الأدب والسياسة ورجال الأعمال والفنانين، وسياح العالم... كلهم في نشوة تشبه آهات يوسف سيف وسعادته.