حدود المتوسط

12 يونيو 2016
مدينة تارودانت (Getty)
+ الخط -
كنتُ مرة في مقر صحيفة مغربية في الدار البيضاء حينما وقعت بين أيدينا قصاصة تخبر عن استعداد مدينة تارودانت في الجنوب المغربي لتنظيم فعاليات مهرجانها المتوسطي الأول. كانت تلك القصاصة نكتة الصباح في الجريدة: المدينة لا بحر لها، وهي تنتمي إلى المغرب العميق. فمتى صارت متوسطية؟

لحسن الحظ أن بعض الصحافيين لم يدققوا كثيرًا في هذه التفاصيل وتوجهوا إلى تارودانت ليعودوا منها مبتهجين. كان المهرجان ناجحًا. الفلامينغو والطرب الأندلسي كانا حاضرين إلى جانب فرق فلكلورية من الجنوب لم تكن أقل متوسطية منهما. حينما توحَّد الراقص الروداني -نسبةً إلى تارودانت- الأسمر النحيل بدفّه وبدأ يجلده بعشق وهو يتشظّى فوق الخشبة وسط زملائه ذوي الجلابيب البيض لم يكن يفعل أكثر من التعبير عن متوسطيته. متوسطٌ آخر لا علم لصحافيي البيضاء المتحذلقين به. فالمتوسط ليس بحرًا بموانئ معلومة وخفر سواحل وشواطئ سياحية محروسة فقط، إنه سماء أيضًا. والأكيد أن سماء المتوسط بنجومها المفتوحة على الفتنة والغواية كانت قد ظللت تارودانت ليالي المهرجان. ثم إن المتوسط أرضٌ كذلك. بل هو أرض قبل أن يكون بحرًا أو سماء. والزيتون الذي يعد أحد أهم ثروات المدينة والبساتين المجاورة لها دليل آخر على أن المتوسط متجذر في تربة تارودانت. فشجرة الزيتون هي أحد أهم مرادفات المتوسط وتارودانت لم تعد تحتاج إلى من يدافع عن متوسطيتها بعد أن أشهرت في وجه المُشكّكين براهينها الوارفة الخضراء.

في أواخر التسعينيات شاركتُ في مهرجان شعري متوسطي بالجنوب الفرنسي. كنا أزيد من سبعين شاعرًا من مختلف الملل والجنسيات واللغات المتوسطية. في ظهيرة قائظة تماسكتُ قليلا بعد فنجانَيْ قهوة وخرجت ملبيا نداء الشعر، رغم أن أصدقائي من الشعراء العرب والأسبان حاولوا إقناعي بأن أجمل فعل شعري يمكن أن يقوم به شخص عاقل بعد وجبة غداء دسمة في مثل هذا الجو الحار هو القيلولة. "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل"، أضاف شاعر مصري محاولا تذكيري بالحديث النبوي الشهير. لكنني فضلت مؤانسة شياطين الشعر على القيلولة.

هناك في القاعة، تقدمت شاعرة من إحدى مدن الشمال الفرنسي بخطىً مدوزنة كقصيدة عمودية. كانت متأنقة بشكل مبالغ فيه. أناقة نثرية غريبة في مثل هذا الجو الشعري الحار.

كان زوجها يتأبط ذراعها بزهو مثل يوليوس قيصر مزيف يرافق كليوباترا حداثية إلى شاليه يطل على بحر الإسكندرية. كان سعيدا لأن زوجته ستقرأ الشعر. صعدت الشاعرة الفرنسية إلى المنصة وقرأت قصيدة طويلة عن المتوسط. تحدثت فيها عن عوليس والإسكندر المقدوني، عن فاسكو ديغاما ونابليون. ثم تحدثت عن البحر والسفن والريح والأسرار. ومع بداية كل مقطع جديد كانت تكرر أن البحر أزرق وكأن الحاضرين مصابون بعمى الألوان. كنت واقفًا مع الشاعرة بعد انتهائها من القراءة، وكنت أكيل لها بعض المجاملات العَرُوضية التي عادةً ما نرددها أمام الشواعر في مثل هذه المهرجانات الشقراء، حينما خطت باتجاهها سيدة أربعينية قدمت نفسها على أنها شاعرة من البرتغال تشرف على مهرجان متوسطي هناك. البرتغالية قالت إنها أنصتت باهتمام للقصيدة المدهشة في مدح المتوسط وستكون سعيدة إذا ما تفضلت فرنسية الشمال الأنيقة ووافقت على المشاركة في الدورة القادمة من مهرجانها المتوسطي.

وافقت الشاعرة الفرنسية على الفور فيما بدا زوجها سعيدا بهذا الفتح الشعري. أما أنا فقد أحسست أن المتوسط بدأ يضيق ليتحول البحر إلى جدول، وفكرت هكذا عفو الخاطر في سان جون بيرس: كم كنتَ متوسطيًا أيها الشاعر أكثر منا جميعًا.

(كاتب وشاعر مغربي)
المساهمون