يعتقد البعض بأن أدب السجون هو ما ما كتب في السجون بم في ذلك من تجربة صادقة ومريرة، إنني أرفض أن يوضع أدب السجون في علبة، ولعلى أضيف إلى ذلك، أو إلى هذة التجربة، ومن أجل الإنصاف، كل ما رفد أو أسند هذه التجربة من كتابات خارج السجن من أجل إثراء التجارت مشتملاً على الصراع مع المحقق أثناء تجربة الإعتقال، والصراع مع الزمن ومواربات السجان والسجين وما بينهما من التفاصيل التي لا يتلمسها إلا الراسخون في العذاب ومنحدراته ومرتفعاته. إضافة إلى تجربة الاعتقال بكل تدرجات مراحلها والأحلام والهواجس التي ما زالت في الظلام.
أليس الشعارات التي حفرها السجناء بأظافرهم على جدران الزنازين هي أدب سجون ربما لم يكتب إلا بعضه على ورق، أظن أن الزمان والمكان يتحركان عل عكس مقاييس البشر، فقد تكون الدقيقة سنة هناك مثلاً.
من أجل جلاء غير ملتبس، وللأمانة يجب أن أوضح مايلي: لم يحدد مصطلح الأدب الفلسطيني فقط بما كُتب وما زال يكتب داخل فلسطين تحت الاحتلال وملامساً كُنه الهمّ الفلسطيني وايقاعاته، وكذلك ليس أدب المقاومة الفلسطينية هو ما لامَسَ المقاومة في جغرافية فلسطين فقط، فقد تُكتب قصيدة مقاومة وبنضج لافت عن فلسطين وأحلامها، وأنت تنساب في عروق إفريقيا أو أميركا اللاتينية أو المغرب العربي مثلاً.
ألا تعتبر قصيدة "لا تصالح"، لأمل دنقل شجرة سامقة ودائمة الحضور وبقوة في وجدان المقاومة الفاعلة؟ وينسحب ذلك على مصطلح أدب السجون، إذن فأدب السجون ليس ما كتب فقط داخل جغرافيّة السجون الاحتلالية مشتملاً على رؤية مقاومة حول الصراع مع المحقق والعدو. إن هذا يجعل المعنى منقوصاً وغير منصف ويتسم بالمحدودية.
ولعلنا في هذا السياق نتذكر صرخة محمود درويش حين قال: "ارحمونا من هذا الحب القاسي" في سياق مشابه في الجوهر، هذه الصرخة تستحق التوقف عندها بموضوعية عالية، حيث وجدنا أن الكل يبتسم ويربت على أكتافنا لمجرد أن كتاباتنا تحدّرت من أرض الوجع (فلسطين)، بينما نحن بحاجة ملحة للرؤية النقدية الثاقبة إضافة لما تكامل مع ذلك من إثراءات في الرؤية، وما أفرزته السجون فقد كان طافحاً بالمصداقية العالية ويحتاج إلى قراءة موضوعية تَحملنا إلى الأمام الذي نتعطش إليه وعلى اختلاف المراحل والأزمنة.
وأعترف أننا كنا نغضب، غضباً يسوقنا إلى بعض التوجسات عندما يُعتدى على هذه القداسة، لقد حان الوقت لكي نخلع عباءة المقدّس، ونبقي على قدسية القلب في أجمل وأنضج النصوص ونُجانب ما كان الشاعر والكاتب الفلسطيني الراحل علي الخليلي قد وصفه بـ "التصفيقية"، وبهذا كما نظن تزداد مساحة الحداثة والتحديث والاستبطان والتبصّر والاستجلاء، وتكريس الرؤيوية الحاذقة والتعددية، والفنية العالية المتأملة التي تتغلغل في مغاليق ومجاهيل النفس البشرية، النصوص الصادمة، الشفيفة والمضيئة والتي تؤدي إلى مجانبة الصراخ والضجيج والأحادية العاثرة.
تحية إذن إلى كل من توجّع من أجل إنسانيته ووطنه وقضيته العظيمة، وتحية أكبر إلى من أحال الوجع الى إبداعات عبقرية مدهشة، وأما الهابط فمصيره الذبول والاضمحلال إن تعذرت الشمس والأرض والماء.
* شاعر من فلسطين