حال سبيلنا

17 مارس 2017
+ الخط -
ها نحن الفلسطينيين ندخل في متاهة الدوائر المغلقة، وهذا ما لدينا: سلطة فلسطينية في رام الله تهيمن عليها حركة فتح. حركة فتح ضعيفة وهشّة ومهشمة. جزء منها يعيش على وهم ماضٍ كان مملوءاً بالأمل ولا يعود، فالماضي لا يغادر عتبات موته. جزء قطع مع الماضي الذي لا ينتمي إليه، فالحاضر يحقق له أحلاماً هائمة بلا جذور، لكنها نافعة لطموحات الفرد. وجزء حاول الهيمنة الكلية على كل شيء، لكنه اصطدم بتشابهه مع أحط ما في تجربة الماضي والحاضر من صفات، فلجأ إلى قوى خارجية يتكئ عليها، فربما يكون له نصيب في طموحه الملوث. سلطة فلسطينية في غزة، تهيمن عليها حركة حماس، متماسكة المعاني، وتستقي من النصوص المقدسة معنىً شاحباً للبقاء، وتبتعد في كل شيء عن هويتها الوطنية، لتفرض هوية جديدة إسلامية، فشلت في كل مكان، حاولت فيه ملكاً ولم تنجح، سوى في شق طريق لدماء تتدفق فيه أنهاراً وطريقاً لكآبة من هم تحت حكمها وقبضتها.
منظمة التحرير الفلسطينية تنام نومة العجوز الهرم في أي لحظة، وعلى أي مقعد، وقد كانت في زمن غابر محركاً لكل أحلامنا، ولم يعد منها الّا وهم الاسم، وكأنها جدٌّ بلغ من العمر أرذله، بين أبناء وأحفاد لا يلتفتون لسعاله أو احتضاره، أو موت آخر أنفاس الحياة في جسده. فصائل يسارية الادّعاء لم تترك لها أوهامها الماضية عن تميزها فرصة لاكتشاف تهتّك رؤاها والرؤى العالمية التي خلقت أوهامها، لكنها ظلت تعيش في ماضٍ ثرثار وخادع، اتخذ من مفردات الأيديولوجيات المندثرة سلّماً متهاوي الأضلاع والدرجات، وأصرّت على اعتلائه، وهي لا ترى إلى الهاوية التي لحقت بها، وبالطبقات التي تدّعي تمثيلها. طبقة رأسمالية تطل برأسها بين الفينة والأخرى، لكي تختبر وجودها حيّة، من خلال مؤسسات دراسات وأبحاث، تمول فيها طبقة جديدة من مثقفي الماضي اليساري، ولا تجد غضاضة في مشاركة المحتلين فتاتاً يرمونه في طريقها، على أمل الاستئثار بحصةٍ أكبر في مستقبلٍ تتوهم فيه ليبرالية كونية تغيثها، وتطمح أن تعتلي فيه شيئاً من السلطة، مع بقايا مهشمة من كل تلك الإطارات السلطوية في رام الله وغزة. مثقفون ضائعون في الخراب المستشري، فمنهم من انسحب إلى البحث في تاريخ الأديان المنقرضة، والتربة التي أنهكتها غيوم بلا ماء، والصور الشعرية العصرية التي تأخذهم إلى أضواء بعيدة. شبابٌ طري اللحم متوقد الروح، لكنه متروك ومهمل، ويصارع أمواجاً مالحة، تملأ صدره، فيكاد أن يغرق أو ينتحر في مزيج تراجيدي من اليأس القاتل والأمل المتوقد.
ها نحن الفلسطينيين. كتلٌ من الشتات في المنافي. كتلٌ من اللحم النازف في مخيماتٍ تشظت وتبعثرت، وأصابها اللجوء مرة وثانية، كأن اللجوء طاعون لا براء منه. وها نحن شعبٌ تتصارع على استثمار دمه محاورُ تجد بيننا من يساعدها، ظنّاً كاذباً إنها قد توقف نزفه. نحن نقع بين الأتراك وحلفائهم، والإيرانيين وحلفائهم، وانكشف ظهرنا عربياً، فلا محور يسندنا حقاً، فالعرب موزعون بين المحاور، وعاجزون عن إيجاد محور خاص لأنفسهم أو لنا.
وها نحن لا نسمع في بلادنا وعنها سوى جعجعة ولغو كلما مات طفلٌ أو شابٌ في مواجهة العدو، فالكل يجعجعون، مثقفونا ومثقفو المقاومات. ونحن محشورون في دائرة "أوسلو" المغلقة والمعاني الزائفة للمقاومة التي يقدمها محورٌ هنا أو محور هناك، لا لشيء سوى تعزيز مصالح هذه المحاور الكاذبة التي لا علاقة لها بمصالحنا الحقيقية. لا ضوء سوى ذلك المنبثق من دماء الصغار الحائرين الذين يريدون هواءً نقياً يتنفسونه، ونافذة مفتوحة على أمل جديد، فيذهبون إلى حتفهم، فيصفق العاجزون لبطولتهم، ويتسابق المستثمرون في الخارج والداخل، ليقطفوا اللحظة المضيئة لسقوط أجسادهم الطرية في برك الدم. ها نحن الفلسطينيين أسرى المتاهة الشائكة، والأمل شاحب الملامح.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.