انتظرتْ حركةُ الأدب في الكثير من البلدان العربية حاضنةَ الثورة لتُعلنَ رسمَ خارطةٍ جيوبولوتيكية جديدة في اتجاهات الكُتَّاب، ونوعيّة نصوصهم، وإيديولوجيتهم، وجغرافيا اهتماماتهم، فتعدَّدت اتجاهات الكُتاب في مقاربة الثورة وتفاصيلها، وفضَّل كثيرٌ منهم العيش في بقعة كتابية خاصة به، حتى غدَوا أشبه بالمكونات الجغرافية المتنافرة في مناخ مواقفها، وأمزجتها، التي تعبِّر عن تحوِّل مَرِن في مفاهيم الانتماء ونظرية الأدب، فانتمى كثيرٌ منهم إلى تيّارات، واتجاهات جديدة، وكذلك تنافرَ بعضُهم، وقطعوا صداقات ذات عُمر مديد، ليكوِّنوا انتماءات جديدة فرضها واقعٌ سياسي وطائفي وإثني وعسكري، ولم يقتصر دورُهم على الكتابة النصيّة، بل أوقعتْهم الصحافة ووسائل الاتصال الاجتماعي فيما هرب منه كُتّاب سابقون، فالثورة التي حَملتْ كلّ هذه التغييرات لم تتركْ كاتباً من خيرها، أو شرّها!
وبعد هذه السنوات من عُمرها، لم يعد يصعُب على المتابع أن يصنّف مواقف الكُتاب، تبعاً لتصريحاتِهم، ومنشوراتِهم الفيسبوكية، ونصوصِهم الأدبية، ويمكنُ بلورتها في التيارات التالية، التي تنمُّ على فهم كلٍّ منها لدور الأدب ونظريّاته الناظمة، إضافة إلى الإيديولوجيا الفاعلة في كلّ منهم:
التيار الأول: تيّار كُتَّاب المناسبات، كثيرٌ منهم لم يسبقْ أنْ عَرفه أحد، منهم الذي لديه ما يستحق النشر، ومنهم ليس كذلك، من الطبيعيّ أنْ يقفز فريقٌ من الكُتاب نحو قطار الثورة، يعلّق أطرافَ كلماته بها، يريدُ أنْ يُعلن عن وجوده، وكلُّه ثقة أنَّ شرفَ الموضوع وحرارَته ومفصليّته التاريخية يكفي لغضّ النظر عن هِنات البدايات، صحيحٌ أنه لا مشكلةَ في المناسبة، بِمفهومٍ ما، فلكلِّ أدب مناسبة، لكن ثمة فرقٌ كبير بين نصّ يتكئ على مناسبة لِيحيا، ونصّ يوسِّع مدارها ويمنحُها بُعداً إنسانياً.
التيار الثاني: تيار المناصرين للثورة، وينقسم إلى اتجاهيْن: اتجاه انشغل بالثورة حَدثاً وتوصيفاً، انغمسَ في الإيديولوجيا وشغلته حرارةُ الحدث وجاذبيتُه الاستثنائية، واتجاه انشغلَ بما قبْل الثورة، أرادَ الحديث عن إرهاصاتِها، والقمعِ السابق لها، يرغبُ أنْ يُعيدَ الأحداث إلى مسبِّباتها، قد يصلُ نصُّه وقد لا يصلُ إلى مرحلة الثورة، لكنه نصٌ من زمن الثورة، يمتلك التوثبَ والروحَ الحارة والجرأة، وينبذُ الخوف، يُسمِّي الأسماء بمسمياتها ويقول كلّ ما يجوس في هواجس شخوصه!
التيار الثالث: تيار المشكّكين في الثورة، خريجيْ نظرية المؤامرة، ينظرون إلى النصف الفارغ من كأس الثورة، فالثوراتُ، بنظرهم، تريد جلب الحرية من باب الآخر الذي لوَّعنا، وتتخذ من حُجّة تكسير المقدّس السياسي المتعفن لِتستبدله بمُقدَّس آخر، أكثر بُؤساً!
التيّار الرابع: تيارُ الصمت عن الحدث، حيث يكتفي بالتأمل وربما الكتابة المتأنّية اللاحقة، يريد أن يقول: إنّ الأدب، عَبر نظرياته المتتالية، ومن خلال أبرز تجلّياته بَدا ميّالاً للتحليل أكثر من كونه ناقلاً للحدث، فهو ليسَ نشرةَ أخبار أو منشوراً فيسبوكياً، فالأدبُ العابر للأزمنة يتأمّلُ الظواهر ويعبِّر عن عميقِها، لا يستعجلُ التصريح، بل يهربُ من المناسبة السريعة كي لايفقدَ بُعديْه الرئيسييْن: الإنسانيّ والجمالي.
اختلفتْ النصوصُ المرافقةُ للثورات، جذرياً، عن النصوص الحالية. اختلافٌ في مفهوم الأدب ومفهوم الثورة، تاريخياً، غالباً ما انشغلَ الوطنيّ والقوميّ في الأدب على الحالة الحماسية المؤجِّجة، قد يكون انسحابُ الأدب اليوم و"حِشمته" الجميلة تلك اعترافاً بقصور أدواته التأجيجيّة أمام الصورة والإنترنت، ووسائلُ التواصل الاجتماعي والميديا عامة، إنّها لفرصةٌ أمام الدارسين لإعادة النظر في الكثير ممّا قيل في نظرية الأدب.
كانت نصوصُ الثورات سابقاً تتفقُ في معظم الأساسيات، لأنَّ الخصمَ هو الآخر القادم من خارج الجغرافيا، مُحتلاً أو مغتصباً أو مرتدياً زيّ الخلافة، ليس شريكَ الخبز والمِلح والوطن والهوية، حدثَ هذا في التعبير عن خصومة الفرنسيين وكذلك الانتصار للقضية الفلسطينية والثورة الجزائرية، أما في هذه الثورة فكلُّ شيء مختلف، خاصة أن ما حدث في الكثير من الدول العربية الأخرى أقربُ إلى تغيير أنظمةِ الحكم منهُ إلى الثورة.
لم ينجُ الكثير من الكُتاب من الوقوع في الحِبال الطائفية والإثنية وأزقة الانتماء الضيق، فكلُّ الثوابت باتت ابنة النقاش، من الموقف؛ إلى الهدف، إلى الانشغال بالأخباري والإيديولوجي والتغاضي عن الإنساني، وبنظرة سريعة يجدُ المُتابع أنَّ الكثير من الكُتاب لم يستفدْ من كون الثورة بيئة حاضنة للهروب من اليقين الإيديولوجي والفني إلى التعدّد والتنوّع، بلْ هربتْ الكثيرُ من النصوص من يقين الوطن إلى يقين الخيار الإلغائي!
احتاج الكثير من الكُتاب الثورةَ أكثر من سواهم، ومنذ أيام الربيع العربي الأولى كانت الأعين متوجهة نحو الأسماء المكرَّسة تنتظر منها المواقف والنصوص، انتظر كثيرون مَن أجزل الكلام لما سُمِّيَ بالثورة الإيرانية، ذات يوم، وإذ به يختصر القول: لا نريد ثورة من الجوامع! وفي الوقت الذي أدان فيه اعتقال النساء الإيزيديات مثلاً (وهو فعلٌ مُدان ووحشي) أشاح بوجهه عن الأطفال السوريين والنساء المعتقلات!
بَدا واضحاً أن مواقف الكثير من الأدباء، عكسَ ما هو مُنتظَر منهم، وفقاً لِمُقايسة تاريخية، قد سبقتْ الجيوبولوتيكيا السياسية في إنشاء التقسيم والتنافر الجغرافي؛ بحيث بِتنا نجد جغرافيات أدبية متعدّدة كانت تتنقل بسرعة من جغرافية التسويغ إلى جغرافية الصمت، تُنْبِئ بمثقَّف من زمن الثورة فَقدَ معظمَ أدوراه؛ ابتداءً من كونِه نخبةً وانتهاءً بدوره العضوي المأمول!
(سورية)
وبعد هذه السنوات من عُمرها، لم يعد يصعُب على المتابع أن يصنّف مواقف الكُتاب، تبعاً لتصريحاتِهم، ومنشوراتِهم الفيسبوكية، ونصوصِهم الأدبية، ويمكنُ بلورتها في التيارات التالية، التي تنمُّ على فهم كلٍّ منها لدور الأدب ونظريّاته الناظمة، إضافة إلى الإيديولوجيا الفاعلة في كلّ منهم:
التيار الأول: تيّار كُتَّاب المناسبات، كثيرٌ منهم لم يسبقْ أنْ عَرفه أحد، منهم الذي لديه ما يستحق النشر، ومنهم ليس كذلك، من الطبيعيّ أنْ يقفز فريقٌ من الكُتاب نحو قطار الثورة، يعلّق أطرافَ كلماته بها، يريدُ أنْ يُعلن عن وجوده، وكلُّه ثقة أنَّ شرفَ الموضوع وحرارَته ومفصليّته التاريخية يكفي لغضّ النظر عن هِنات البدايات، صحيحٌ أنه لا مشكلةَ في المناسبة، بِمفهومٍ ما، فلكلِّ أدب مناسبة، لكن ثمة فرقٌ كبير بين نصّ يتكئ على مناسبة لِيحيا، ونصّ يوسِّع مدارها ويمنحُها بُعداً إنسانياً.
التيار الثاني: تيار المناصرين للثورة، وينقسم إلى اتجاهيْن: اتجاه انشغل بالثورة حَدثاً وتوصيفاً، انغمسَ في الإيديولوجيا وشغلته حرارةُ الحدث وجاذبيتُه الاستثنائية، واتجاه انشغلَ بما قبْل الثورة، أرادَ الحديث عن إرهاصاتِها، والقمعِ السابق لها، يرغبُ أنْ يُعيدَ الأحداث إلى مسبِّباتها، قد يصلُ نصُّه وقد لا يصلُ إلى مرحلة الثورة، لكنه نصٌ من زمن الثورة، يمتلك التوثبَ والروحَ الحارة والجرأة، وينبذُ الخوف، يُسمِّي الأسماء بمسمياتها ويقول كلّ ما يجوس في هواجس شخوصه!
التيار الثالث: تيار المشكّكين في الثورة، خريجيْ نظرية المؤامرة، ينظرون إلى النصف الفارغ من كأس الثورة، فالثوراتُ، بنظرهم، تريد جلب الحرية من باب الآخر الذي لوَّعنا، وتتخذ من حُجّة تكسير المقدّس السياسي المتعفن لِتستبدله بمُقدَّس آخر، أكثر بُؤساً!
التيّار الرابع: تيارُ الصمت عن الحدث، حيث يكتفي بالتأمل وربما الكتابة المتأنّية اللاحقة، يريد أن يقول: إنّ الأدب، عَبر نظرياته المتتالية، ومن خلال أبرز تجلّياته بَدا ميّالاً للتحليل أكثر من كونه ناقلاً للحدث، فهو ليسَ نشرةَ أخبار أو منشوراً فيسبوكياً، فالأدبُ العابر للأزمنة يتأمّلُ الظواهر ويعبِّر عن عميقِها، لا يستعجلُ التصريح، بل يهربُ من المناسبة السريعة كي لايفقدَ بُعديْه الرئيسييْن: الإنسانيّ والجمالي.
اختلفتْ النصوصُ المرافقةُ للثورات، جذرياً، عن النصوص الحالية. اختلافٌ في مفهوم الأدب ومفهوم الثورة، تاريخياً، غالباً ما انشغلَ الوطنيّ والقوميّ في الأدب على الحالة الحماسية المؤجِّجة، قد يكون انسحابُ الأدب اليوم و"حِشمته" الجميلة تلك اعترافاً بقصور أدواته التأجيجيّة أمام الصورة والإنترنت، ووسائلُ التواصل الاجتماعي والميديا عامة، إنّها لفرصةٌ أمام الدارسين لإعادة النظر في الكثير ممّا قيل في نظرية الأدب.
كانت نصوصُ الثورات سابقاً تتفقُ في معظم الأساسيات، لأنَّ الخصمَ هو الآخر القادم من خارج الجغرافيا، مُحتلاً أو مغتصباً أو مرتدياً زيّ الخلافة، ليس شريكَ الخبز والمِلح والوطن والهوية، حدثَ هذا في التعبير عن خصومة الفرنسيين وكذلك الانتصار للقضية الفلسطينية والثورة الجزائرية، أما في هذه الثورة فكلُّ شيء مختلف، خاصة أن ما حدث في الكثير من الدول العربية الأخرى أقربُ إلى تغيير أنظمةِ الحكم منهُ إلى الثورة.
لم ينجُ الكثير من الكُتاب من الوقوع في الحِبال الطائفية والإثنية وأزقة الانتماء الضيق، فكلُّ الثوابت باتت ابنة النقاش، من الموقف؛ إلى الهدف، إلى الانشغال بالأخباري والإيديولوجي والتغاضي عن الإنساني، وبنظرة سريعة يجدُ المُتابع أنَّ الكثير من الكُتاب لم يستفدْ من كون الثورة بيئة حاضنة للهروب من اليقين الإيديولوجي والفني إلى التعدّد والتنوّع، بلْ هربتْ الكثيرُ من النصوص من يقين الوطن إلى يقين الخيار الإلغائي!
احتاج الكثير من الكُتاب الثورةَ أكثر من سواهم، ومنذ أيام الربيع العربي الأولى كانت الأعين متوجهة نحو الأسماء المكرَّسة تنتظر منها المواقف والنصوص، انتظر كثيرون مَن أجزل الكلام لما سُمِّيَ بالثورة الإيرانية، ذات يوم، وإذ به يختصر القول: لا نريد ثورة من الجوامع! وفي الوقت الذي أدان فيه اعتقال النساء الإيزيديات مثلاً (وهو فعلٌ مُدان ووحشي) أشاح بوجهه عن الأطفال السوريين والنساء المعتقلات!
بَدا واضحاً أن مواقف الكثير من الأدباء، عكسَ ما هو مُنتظَر منهم، وفقاً لِمُقايسة تاريخية، قد سبقتْ الجيوبولوتيكيا السياسية في إنشاء التقسيم والتنافر الجغرافي؛ بحيث بِتنا نجد جغرافيات أدبية متعدّدة كانت تتنقل بسرعة من جغرافية التسويغ إلى جغرافية الصمت، تُنْبِئ بمثقَّف من زمن الثورة فَقدَ معظمَ أدوراه؛ ابتداءً من كونِه نخبةً وانتهاءً بدوره العضوي المأمول!
(سورية)