جورج عدّة في مئويته

16 سبتمبر 2016

جورج عدّة... حمل فلسطين في قلبه وعقله

+ الخط -
في السنوات السابقة لمغادرتي تونس، في مفتتح عام 2008، وقبل رحيله في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، كنت ألتقي جورج عدّة مرة في الأسبوع على الأقل.أحياناً، كان يدعوني إلى تناول الغداء، وأحياناً امرّ عليه في منزله لتناول قهوة الصباح .كان يفتح، في الأيام المشمسة، شباك غرفة الجلوس، ويقول لي: انظر إلى علم فلسطين المرفرف من السفارة الفلسطينية. هذا العلم يجعلني أحب هذا البيت.
كان جورج جاراً للسفارة الفلسطينية في تونس، وكان يحمل فسطين، في قلبه وعقله، وقد قضى سني وعيه السياسي يناضل بالكتابة والمحاضرات في الندوات والمؤتمرات الدولية حول فلسطين ومناهضة الصهيونية، من أجل فلسطين حرة وديمقراطية. عندما أردت أن أكتب عنه، قلت أبحث عما قاله الآخرون عنه، وعائلته والاتحاد التونسي للشغل والأرشيف الوطني وكلية الآداب والفنون والإنسانيات والمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر والمكتبة الوطنية في تونس، يستعدون لإحياء الذكرى المئوية لميلاده في الثاني والعشرين من سبتمبر/ أيلول الحالي. أشار من كتبوا عن جورج عدة ونضالاته الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي لتونس، وعنه نقابياً ومفكراً، بعد الاستقلال إلى حين وفاته عن عمر الثانية والتسعين، إلى يهوديته بجملةٍ كانت علامةً بارزة فيما تعلمت من هذا الرجل المناضل الحكيم. يشير الجميع إلى أنه كان يهودياً تونسياً ومناضلاً شيوعياً.
عندما كنت أبحث وأكتب سيناريو لفيلمي الذي دفن، نتيجة الجهل والخوف، في أدراج وزارة الثقافة الفلسطينية، وهو في طور الإعداد حول الفلسطينيين اليهود، تحدثت مع جورج عن المشروع. ومنذ الكلمات الأولى التي نطقتها بشأن عنوان الفيلم "اليهود الفلسطينيون"، أوقفني جورج عن الكلام، وأعطاني محاضرة تلخص كل أفكاره حول الإشكالية التي كانت موضع جدل واسع، لم ينته بعد في أوساط المثقفين والكتاب العرب اليهود داخل إسرائيل، والتي تتعلق بهوية العرب اليهود. قال لي جورج: نحن نبدأ بالهوية الوطنية وليس الدينية.عليك أن تغير العنوان إلى "الفلسطينيون اليهود". كان درساً لا أنساه، فقد كان جورج لا يرتاح لتعريفه يهودياً تونسياً، فقد ولد، كما قال لي، مصادفةً لعائلة تعتنق الديانة اليهودية، لكنه تونسي مائة بالمائة، وأممي مائة بالمائة، ومناهض للصهيونية مائة بالمائة، ومحب لفلسطين وشعب فلسطين، إلى أن هرم، ثم قضى، وهو على هذا الحب.
لم يوافق جورج عدّة، كما قال لي، على اتفاق أوسلو، ولا على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، لكنه أكد أنه لا يستطيع إلّا أن يكون مع الفلسطينيين، في خياراتهم الصعبة، وهو لا يعتبر نفسه وصيّاً على ما يرونه من سياسات. وعلى الرغم من رغبته الجامحة لزيارة فلسطين التي اعتبر قضيتها في قلب كل القضايا العادلة في الكون، فقد كان يرفض زيارتها إذا كان الأمر يعني اعترافاً بشرعية الاحتلال، وتكريساً لوجود الدولة التي قامت على الفكرة الصهيونية التي قاومها كل حياته، في المؤتمرات الدولية المناهضة للصهيونية، مع لفيفٍ من المفكرين الأوروبيين، وغيرهم المنحدرين مثله مصادفةً من عائلات يهودية. كان جورج عدة شيوعياً حقيقياً، بدأ عضواً في الحزب الشيوعي التونسي، وقائداً له، وإن كانت شيوعيته تتجاوز في رؤيتها الثورية حزبه والأحزاب الشيوعية كافة.
انخرط جورج باللواء الأممي ضد الفاشية الإسبانية في أثناء الحرب الأهلية في الثلاثينات، واعتقلته فرنسا، وأبعد وعاش منفياً في الجزائر. وبعد الاستقلال، ناضل ضد السياسات البورقيبية على المستوى الداخلي، وأوقف وتعرّض للتحقيق مراتٍ، لكنه ظل أميناً للمبادئ الديمقراطية وللفكرة الشيوعية، فقد دفن، كما أوصى، في مقابر العلمانيين في تونس. وكانت فلسطين مركز اهتمامه، وأحبه الفلسطينيون كما أحبهم. وإن كنت أحزن لعدم إتمام مشروعي حول الفلسطينيين اليهود، فجزء من حزني كان لأنني كنت سأهدي هذا الفيلم إلى جورج عدة، قبل رحيله، وهو الذي أنار لي بحكمته بعضاً من طريقي.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.