كأنها "شعرة معاوية" رفيعة ولا تكاد ترى بالعين المجردة، بين أن تناضل من أجل حرية الوطن، أو تركب قارب حكمه (بُعيد الاستقلال)! مستنداً إلى "الشرعية الثورية"، ومعتقداً أن الرصيد النضالي يسمح لك بالاستمرار على ضفة القيادة.. هي شعرة رفيعة بين أن تبقى مع الشعب منتقياً موضع "مكابدة" مشقة المسيرة معه، أو أن تختار مقاعد وثيرة لحكمه كيفما اتفق "الحكام الجُدد".
هي شعرة لا يدركها إلا الطاعنون في التجربة.. "المنتمون" لجوهر الثورة، لا لشكلها وتمظهراتها الخارجية، هكذا لاحظ غيفارا الشعرة المتينة رغم ما يبدو عليها من وهن.. وهكذا انتبهت جميلة بوحيرد إلى المسافة الشاسعة بين "النضال والحكم". انتمت للأول منذ البدء، ولاذت بكل ما أوتيت من قوة وإيمان من الثاني.. أقامت متاريسها وقلاعها الحصينة، وبقيت محافظة على طزاجة حلمها النضالي وانتمائها للشعوب، كل الشعوب المظلومة.. مفلتةً من غواية السلطة، وسجلّ الثورة التجاري.
انزوت بعيداً عن فلاشات الإعلام، وصالونات السلطة، ومطابخ القرار، لتبرهن أن غاية الثورة هي الحرية، حرية الشعوب، وليس ثمة التباس لديها بين معنى الثورة وإغواء السلطة. بالكاد تلحظ بقاءها "شهيدة" على قائمة الأحياء، وشاهدة على عصور الثورة وعقود الثروة..
بقيت ثرية برصيدها الثوري، ووشوم التعذيب، فقيرة ومعدمة في حساب البنوك وسجلّ العقارات. تتعثر بها في الأسواق الشعبية، أو في صالة المطار منهكة تحمل حقيبتها، وتخفي وجهها بنظارة شمسية حتى لا تلحظ كاميرات الإعلام ملامحها الثمانينية، أنيقة في بساطتها، وبسيطة في مفرداتها الشحيحة، متواضعة في تعاطيها الإنساني، لكنها حازمة بشكل كاف لوضع حد لأي استغلال إعلامي لتجاربها النضالية، او حتى لتجربتها الحياتية التي شهدت كل أشكال التهميش، على عكس كثير من رفيقاتها المناضلات اللائي اخترن الاقتراب من عسل السلطة.. لا تراودها فكرة التمتع بحقوقها كاملة، قبل أن تستشعر باكتمال أحلام من ناضلت وضحّت من أجلهم.
هكذا أمضت ستة عقود عجاف من أزمنة الدولة، بعد أن قاست ويلات الاستعمار وهي بعد صبية. بدت فرحة وهي تعتلي منصّة التكريم في "مهرجان أسوان لسينما المرأة" في 21 من الشهر الجاري، وهي العازفة عن التكريمات، وأضواء المهرجانات.
لعلّ شيئاً ما شدّها إلى أسوان، دون غيرها.. ربما لأن المدينة تمثل صورة أخرى منها، في عزوفها عن الحضور، وفي أشكال التهميش الذي عانته المدينة الغافية في حضن النيل، في ظل سطوة العاصمة، والشمال ككل، بمركزيته ونظامه السياسي والثقافي الذي لا يلتفت كثيراً لأهمية "الهامش" بتاريخه وحيويته، أو لاعتبارات تتعلق بنضالات المرأة، لاسيما أن المهرجان مخصّص لتقديم المعالجات السينمائية المعنية بقضايا المرأة، أو لأسباب أخرى لا تقل أهمية.. لكنها كانت مناسبة نادرة ومهمة، أحسنت "أسوان" في الاحتفاء بها.. بصوت الدفوف الشعبية، ودقات الأراجيد النوبية وزغاريد النسوة المناضلات في أقصى الجنوب المسحوق.
كانت "جميلة" بما يكفي لحقن الفرحة في قلوب أنهكتها الخيبات، وقوية بما يكفي لبعث الأمل كضرورة نضالية وزاد للمسيرة.