ثلاثة أسابيع مع ضيف غير مرغوب فيه

22 ابريل 2020
سهام بوهلال (تصوير: ماري روماني)
+ الخط -

في الأيام الأولى التي وصل فيها خبر الوباء الجديد من الصين، اكتظّت مواقع التواصل الاجتماعي بردود فعل كثيرة، أكثرها لا معنى لها، أو في صيغة نكات، غير أن فيديو تداوله الناس جعلني أحزن وأثور في آن واحد. فيديو نرى فيه تسجيلاً لمواطنة بلجيكية تنهال بالشتم وحتى الضرب على مواطنين صينيين وتدعوهما بهمجية لمغادرة عربة المترو.

موقف فظيع ارتاع له الركّاب والناظرون. تذكّرت حينها فترات إضراب المواصلات بفرنسا حيث يختفي التعامل الحضاري ويكثر الازدحام والمشاجرات ولا يصل إلى داخل العربة إلا من كانت له أكتاف قوية، وتذكّرت أيضاً ما خلفته مظاهرات السترات الصفراء من خسائر مادية، وأفدح منها ما تركته من كراهية انفجرت كقنبلة بين الفرنسيين حينها. قلتُ في نفسي: لو اجتاحنا هذا الوباء ربما اندلعت حرب عالمية ثالثة في أوروبا وأكل البعض البعض، وأن الأخلاق والأدب بمعناهما الحديث هشّان للغاية.

ورغم ذلك ظل الغرب يرى في الوباء الجديد ظاهرة بعيدة عنه كل البعد، حتى ظهرت الحالات الأولى في إيطاليا وشرق فرنسا ثم في بقية بلدان العالم، ففهم أنه من غير الممكن أن يحمّل المسؤولية إلى جهة معينة كما هي عادته. ثم، بدأت فترة الحجر الصحّي ومعه موجة من الخوف، شجعتها الصحافة بكل أنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة والرقمية، وخاضت في مواضيع لا تفقه فيها شيئاً.

فكّرتُ أول الأمر بأهل غزة والثلاثة عشر عاماً من الحصار عليها، وبالفقر ودور الصفيح في المغرب وغيره، وبأطفال الشوارع والأسر المرمية في مزبلة الذاكرة العامة. قلتُ لنفسي: هذا حجر أرستقراطي، كيف يخيف لهذه الدرجة وكيف يهجم الشعب الفرنسي وغيره على المتاجر وكأنهم تذكروا فجأة مجاعة قديمة كانت تسكنهم.

لم أستهن بالأمر طبعاً، وعلى أية حال فالوحدة صديقة عزيزة عليّ، وها إن كل البلد أصبح يعيش مثلي. والمصائب موجودة في العالم غير أننا لا نراها أو نرفض أن نراها، وصرنا نعيش في أجواء قيامية.

صار كل طرف يجرّ الغطاء لنفسه، لا أحد يكفيه ما لديه، وظهر نوع شبه جديد من الكتّاب. يتحدّثون عن ذاكرة الحجر في سكنهم الريفي، بين الأزهار والأشجار ومجاري المياه، يا له من "عذاب" ومن "تضحية"! وبعض الشعراء أخرجوا من أدراجهم قصيدة "حب في زمن الكورونا" وكأن لهم لكل مصيبة قصيدة يُخرجونها في أوانها، أو "ما وراء الكورونا"، ومنهم من ينعون موتى الكورونا بقصائدهم لأنهم يذهبون وحدهم للمقبرة، جاهلين أنه في كل ستّ ثوان يموت شخص بداء السكري والعدد مضاعف بالسرطان أو يقتل زوجٌ زوجته، أو يردي رصاص المحتل الإسرائيلي طفلاً فلسطينياً، إلخ...

وظهر علماء كثر، في الاجتماع والنفس والفلاسفة، كلٌّ يشرح الكورونا كما يشاء...

وتوصّلت في فيسبوك بطلبات لكل من يعتبر أنه فيه رائحة من علم الطب، من اختصاصيين في علم النفس ومحامين كأننا سندخل في محاكمة مع الكورونا.

قلتُ لنفسي: كل واحد حرٌّ يفعل ما يشاء، وقد قطعت على نفسي ألا أكتب في الموضوع.

بقيت في المنزل وهو في مجموعة السكن الاجتماعي، حيث تكتظ العائلات، عربية وأفريقية وهندية (وفرنسية في النادر)، من هؤلاء الذين لم يستطيعوا الفرار إلى أي سكن في ريف جميل.

ومع ذلك، تظلّ وضعيتنا أحسن بكثير من سكان دور الصفيح، والأرصفة والمقابر وغيرها في بلاد كثيرة من العالم.

ورغم أن القلب ينفطر لفراق ابنتي المعزولة في مدرستها الخاصة وأن صوتها يصلني حزيناً، أصبّر نفسي وأقول إن هذا في صالحها وإنها تعلّمت كلمة جديدة ومعقدة: الحجر بالفرنسية confinement.

غير أني وبعد ثلاثة أسابيع من المعاناة والصراع مع الزائر الجديد، أعطاني صديق عزيز فكرة الكتابة عن هذه التجربة، ربما تفيد أحداً، وإذ إني سأكتب عن موضوع أعرفه اقتنعتُ بالفكرة.

ربما ساعدني في التغلّب عليه ما قلت في أول النص، نظرة متوازنة للكورونا وطرحه في واقع العالم الذي نعيش فيه.

توالت عليّ الأيام والليالي في عزلتي، بين زائرة المتنبي وربو مارسيل بروست.

تحترق الذات ثم تغرق في نهر من العرق، تتضارب الآلام أطراف جسدك من الرأس إلى أخمص القدمين، حتى لا تترك فيه شبراً سالماً، تحسّ بصدرك يضيق حتى الانكسار وكأن حافلة مرّت عليه، كما يقول شاعر كبير. تُسائل هذا اللئيم غير المرغوب فيه صمتاً، لأنه لم يترك لك صوتاً لكي تتكلم. تنفر من الأكل وعلى أي حال ستحرمك وحدتك من أي زيارة، كما كانت تقول لي أمي: يا سهام إلى متى تعيشين وحدك... حتى إذا مرضت "ما تلقايش لي يمد لك كاس ديال الما". كنت أجيبها: "ما يمد لي كاس ديال الما ولا ديال السم...!".

وكلما اشتعلت الحمّى اعتقدتُ أن أمي لم تمت من سنتين وأنها ووالدي ما زالا موجودين، وأن أبي فرش لي موضعاً صغيراً قرب مرقدهما، في الفترات التي كنت أعاني فيها من التهاب اللوز، وأنني نائمة في غرفتهما حتى أنهض في الصباح الرابع وأبتسم لأبي، فيقول: ها الحمّى قد راحت وابتسمت سهام. ويأتي لي بفطور شهي.

لكن مرّ اليوم الرابع والأيام الموالية والحالة مستمرة وذاك الصباح مع أبي لا يأتي إلا بعد ثلاثة أسابيع، مع مد وجزر وكأن هذا الوحش المجنون يرفض فراقي. صراع حرمني من كل طاقة لعمل أي شيء وترك لي تعباً كبيراً ولكن لم يستطع أبداً أن يُعمي بصيرتي عن آلام وأمراض عالمنا الحديث.

من الأشياء التي كانت صعبة أن أقول لأهلي وأحبتي إن الأمر سهل حتى لا ينشغلوا، وهذا في حد ذاته كان يزيد من عمق الوحدة في الذات.

لكن ما أرهبني حقاً هو فكرة أن أترك ابنتي المريضة وحيدة في عالم لا يرحم وأن أرحل دون أن أنطق بكلمة حب أخيرة.


* شاعرة وكاتبة ومترجمة مغربية مقيمة في باريس. تكتب بالفرنسية، ومن إصداراتها الشعرية: "قصائد زرقاء" (2005)، و"قبر الشوك" (2007)، و"الجسد الضوء" (2008)، و"موت لا يندمل" (2010)، و"وجه العالم الآخر" (2014). وصدر لها في الرواية: "الأميرة أمازيغ" (2009)، و"عناق" (2012)، و"يتجسّد غيابك" (2015، الصورة)، كما نقلت إلى الفرنسية "أدب النديم" لـ كشاجم "الكتاب الموشّى"، لـ أبي الطيب الوشّاء البغدادي (غاليمار، 2004).

دلالات
المساهمون