ثلاثة أحلام

21 يوليو 2015
لوحة للفنان الفرنسي أندريه ديموناز André Deymonaz
+ الخط -
الجوع
متلهّفاً، تمدّد على السرير. لحاف خفيفٌ ومريحٌ، سرعان ما غفا تحت دفئه. كانت زوجته في الصالون، وحدها تتابع مسلسلاً مصرياً، وكانت أصوات الممثلين المضجرة تصل إلى أذنيه عبر باب غرفة النوم. تذكّر أنه عانى طويلاً من هذر المسلسلات، عندما كان فتىً، وحتى عندما صار شاباً! على وقع تلك الذكرى الثقيلة الكئيبة، وكما لو أنه يهرب منها، سرعان ما سقط في النوم.
لكنه بُعيد منتصف الليل فتح عينيه مذعوراً وحرارة جسمه مرتفعة: كانت غرفة النوم مظلمة ظلمة شديدة، حتى أنه ظنّ أن ليس بمقدوره الخروج منها، كما أنه انزعج من رائحة العرق التي بثّتها السخونة تحت إبطيه وبلّلت عنقه ونحره. مع ذلك خطا خارجاً مثل أعمى خفيف الحركة دونما صوت، بعدما استطاع تلمّس طريقه بحذرٍ، إذ مرّر يديه على حافة السرير ثم التفَّ نحو خزانة الملابس، حتى وصل إلى مقبض باب الغرفة وفتحه بهدوء وبطء، وحينها لاح له بصعوبة باب المطبخ.
لم يدر سبب ذعره المفاجئ. كانت الساعة حينها قرابة الرابعة بعد منتصف الليل. فجأة تذكر الحلم: كانت هناك عجينة خبز زرقاء طرية تتحول إلى سمكة تؤنبه تأنيباً قاسياً فاتحة فمها على نحو بغيض، ثم يجد على ظاهر كفّه بزوغ زهرة سوداء ناعمة تطلب منه أن يشمّها، وهو في ذات اللحظة يعرف أنها سامّة وأنه لن يتردد في شمّها، رغم أن في ذلك موته الأكيد. وهكذا قبل أن يشمّ الزهرة، تلتصق العجينة بوجهه كلّه كأنما تريد أن تلتهمه، ثم يهرع فيفتح عينيه ولا يجد غير الظلام حوله. كي يخفّف من أثر خوفه، فكّر أن يجد تفسيراً للحلم المتكرر. قال ربما تكون العجينة ذكرى أمه الميتة، وربما تكون الزهرة علامة على خوفه من الموت. ما الغريب في الحلم إذاً؟ الكل يخشى الموت، ما من أحد لا يخافه، لكن أن تكون عجينة الخبز تذكيراً بأمه، ثم أن تلتصق بوجهه، فهذا ما اعتبره غريباً وغير قابل للتصديق، غير أنه استدرك، وتذكر أنه لم يكن يخشى الموت قدر ما تألم لرحيل والدته، إذ إنه لم يرتعب أثناء الحلم، بل هو كان يهمّ بشمّ الزهرة السوداء، وأن ما أخافه العجينة، تلك اللعينة. لربّما تكون هي ذاتها سبب ولادته، وسبب حلمه المتكرر: الجوع.

الصباح

أخيراً تذكّرَ المرأة الشابّة عقب مضي أكثر من خمس سنوات. يا لطول مرور الزمن السريع، يا لخفته أيضاً. حقاً يبدو الزمن مثل إغماضة عينٍ.
كان يرافقها، أو في الحقيقة كان يلاحقها من دون كلل، ونجح أكثر من مرة بإقناعها. كان عناده أقوى من تذمّرها وصَدِّها، وكانت رغبته تضيء حزنها. غير أن الحزن جاء من مكان آخر، من شيء كان يبث جسماً قاسياً غريباً في الهواء، مادة كما لو كانت من نورٍ طاغٍ مفزع ومخنوق.
حدث ذلك في باكر صباح ندي غائم. الشوارع خالية، والصمت مثل شعاع الشمس، مثله تماماً. غير أن الحجرة كانت معتمة. خطت المرأة الشابة وسط الحجرة مثل ضيف ألِفَ أقسام البيت. لمحت، ثم تثبتت من ذلك، فتية ممزقي الثياب، وقد انحنت رؤوسهم؛ كأنهم يفكرون مستغرقين ذابلين في رؤى منهكة. بدت وجوههم، بعد برهة، شديدة الإرهاق حدّ أن أي واحد منهم لم يرفع رأسه ليبادل المرأة نظرة على الأقل أو يردّ على دخولها بكلمة. ما كانوا في حاجة لأن ينظروا ولا أن يفاجئهم أحد. جلست المرأة بهدوء، كأنما عداها تعبُ الصامتين وخمولهم، على كرسي ذي مسند خفيض وحشوة صفراء باهتة. ثم نظرت حولها. رأت بقعاً عديدة بيضاء لزجة عكرة. رغم كدر لون النُّطف الغزيرة المتلاصقة ازدهت بلمعة غريبة كأنما كائن لا مرئي يسلط عليها وحدها ضياء صافياً. ثم ظهرت من خارج الحجرة يد شخص عملاق. لم تحرك المرأة ساكناً. انتظرت، وإن بخوف وذهول، ما سيعقب صمت اليد المترقبة حتى شدّت قبضتها بقوّة على خصرها اللين زامّة فستانها بين أصابعها المشدودة. لم تستسلم المرأة لقبضة اليد وحسب. ما كان سكونها اللين وطواعيتها المرتخية تجاه القبضة باستسلام قط. كانت مغمورة بشأن آخر. كانت قادرة على التخلي عن كل شيء لقاء رؤية وجه العملاق. ثم فجأة رفعتها القبضة دفعة واحدة، فترافعَ ثوبُها عن سُرَّةٍ مدوَّرَةٍ عميقةٍ ناعمة.

وليمة المستقبل

حتّى اليوم، لم أعرف بعدُ، لما كانت تغريني دعوة صديقي إلى تناول الغداء في بيته. ربما لأنّ أمّي كانت تتعب طويلاً إذ تحضّر الأكل لعائلتنا الكبيرة. وإذ كنت أحسُّ بتأنيب شديد جرّاء تلك الحال، أجد تناولي الطعام صحبةَ صديقي، نوعاً من تخفيف العبء عن أمّي.
كنّا، صديقي وأنا، نظلّ نتحادث في شؤون يومية على الهاتف، قبل شيوع الموبايل. نبدأ بالموسيقى، ثم في شؤون البلدية الخاوية، وأيضاً في تذكّر أغانٍ كثيرة، ومن ثم إذ نجد أن كلماتنا نفدت، ننصرف إلى تحديد موعد للغداء، أو الإشارة إلى طعام مفضّل. كانت عائلة صديقي صغيرة، بنتان وولد. معظم الأحيان، لم نكن نحن من يختار نوع الطعام، إذ هذا شأن الأمّهات، وكنا بسبب تبطلنا وفشلنا، لا نحرّك ساكناً إزاء أي نوع يُقدَّم لنا. كانت الخبيزة مع البصل أفضل من الخبيزة مع البيض المقلي. كان ثمة أمر يذكرنا برائحة الأرض، عدا اعتقادنا، غير المبرر، أن المرء لا يحتاج إلى أي عمل كي يعيش، طالما كانت وليمة الأرض ملاذه. الأرض والتراب اللذان يقدمان نباتات برية وأشياء أخرى كثيرة لذيذة. كنّا أحياء لأسباب بسيطة؛ ندمُنا القادم إذ نكون من دون أمّهات، في صحبة زوجات لا يرضين بأي نوع من الخبيزة، حتى إن كانت مستوردة من تركيا، ومغلفة بالنايلون الشفاف. لكن أحدهم أوصانا بالجزر والملفوف، قائلاً في حال هي مزيج من سخرية بائسة وحضّ حزين: نحن معزات المستقبل، الوليمة الأذكى، ألسنا كذلك حقاًّ...! كانت أمنية مختصرة كافية رائعة.
(كاتب سوري)
المساهمون