شهدت الأيام الأخيرة تطورات دراماتيكية حول قانون المجلس الأعلى للقضاء في تونس، انتهت بإحالته مجدداً إلى طاولة المزايدات السياسية، لتقرر مصيره النهائي وتخرج به من دائرة الجدل القانوني المحض إلى صراع حقيقي حول توازن السلطات الثلاث، بعدما أقرّه مجلس النواب في منتصف الشهر الحالي.
وبعدما حاول القضاة بكل قواهم منع المصادقة على مشروع القانون الذي أحالته الحكومة على نواب الشعب، وبعدما فشلت كل جهود القضاة في تغيير ميزان القوى، تعلَّقت آمالهم بنواب المعارضة وبجزء من الائتلاف الحكومي وببعض المستقلين، ونواب من حزب "نداء تونس" الذين عارضوا القانون، ووجدوا في اعتراض القضاة بعض الوجاهة أو بعض المكاسب السياسية.
وقبل انتهاء الآجال القانونية لتقديم الطعون يوم الجمعة الماضي، تمكّن المعارضون للقانون الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب، من جمع 30 توقيعاً على لائحة الطعن التي تتضمّن 25 مأخذاً، لإحالتها على أنظار هيئة مراقبة دستورية القوانين. وتناقلت وسائل الإعلام الخبر الذي أسعد القضاة، ووجهوا على إثره بيان شكر للنواب المتضامنين.
وينص القانون المتعلق بالهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين على أن تنظر الهيئة في القوانين المطعون فيها، بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو 30 نائباً على الأقل، يرفع إليها في أجل أقصاه سبعة أيام من تاريخ مصادقة المجلس على مشروع القانون المطعون فيه أو في أحد أحكامه.
يخضع القضاء، منذ الاستقلال، للإرادة السياسية. وقد تم إخضاع هذه السلطة في مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء، عبر إعطاء رئيس الدولة صلاحيات واسعة تسمح له بالتدخل في الشأن القضائي، إذ يترأس المجلس الأعلى للقضاء على الرغم من أنه في الوقت عينه رئيس السلطة التنفيذية. وثاني هذه الأدوات تمثل في تمكين وزير العدل من التحكم في القضاة عبر أجهزته الإدارية وسلطته السياسية المفوضة من قبل رئيس الجمهورية. وتعترض بعض الهيئات القضائية على عدم تمثيلها في المجلس على غرار عدول الإشهاد والتنفيذ وغيرها من الهيئات.
اقرأ أيضاً تونس: معركة حاسمة من أجل استقلال القضاء
وشملت قائمة المتقدمين بالطعن نواباً من أحزاب مختلفة مثل الجبهة الشعبية اليسارية والكتلة الديمقراطية الاجتماعية والمؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي ومستقلين، وحزب آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر. وكان من المفترض أن تتولى الهيئة العليا لمراقبة دستورية القوانين النظر في الطعون المقدّمة وإصدار قرار في شأنها خلال 10 أيام قابلة للتمديد أسبوع آخر، وهو ما كان يهدد في حال إقرارها، بتجاوز التاريخ المحدد دستورياً لإنشاء المجلس، ليطرح الجدل من جديد حول خرق الآجال الدستورية الذي كان أثار موجة من الاحتجاجات الدستورية والقانونية في بداية طرح القانون.
غير أن تطوراً مفاجئاً حدث مساء الجمعة، ألغى كل الفرضيات وجعل الأمور تعود إلى نقطة البداية. فقد تراجع نائبان من حزب الاتحاد الوطني الحر عن توقيعهما على لائحة الطعن المذكورة، ما عكس حقيقة المزايدات السياسية التي أصبحت تتحكم بكل التفاصيل مهما كبرت أو صغرت في تونس.
ومنذ الشروع في مناقشة القانون، تحوّل الجدل حول استقلال القضاء إلى مواجهة مباشرة بين القضاة والمحامين من ناحية، وبين القضاة والحكومة من ناحية أخرى. كما تحوّل إلى الساحة السياسية ككل، التي عاشت على إيقاع هذا القانون في الأسابيع الماضية، وشهدت اضرابات متتالية للقضاة وصلت إلى حد الإضراب خمسة أيام متتالية في آخر حركة نضالية للقضاة.
انعكس النقاش بدوره على التحالف الحكومي، إذ عبّر أحد الأحزاب المكونة، حزب "آفاق تونس" عن معارضته القانون وصوّت ضدّه في البرلمان، ما أثار علامة استفهام حول تماسك هذا التحالف وسط أنباء عن احتمال إقصاء هذا الحزب من التحالف، وهو ما دعا إليه نواب من حزب "نداء تونس". وتسعى الأحزاب الأربعة المكونة للتحالف في الأيام الأخيرة إلى الحد من تأثيرات هذا الحدث على تماسك الائتلاف الحاكم. وعقدت هيئة التشاور والتنسيق المحدثة سلسلة من الاجتماعات لتوحيد مواقفها ومحاولة إنقاذ التحالف أمام الصعوبات الكبيرة التي تواجهها الحكومة على أكثر من صعيد.
غير أن تراجع نائبي "الاتحاد الوطني الحر" يعكس في حقيقة الأمر ثقل الضغوط التي فُرضت عليهما وعلى غيرهما من النواب للامتناع عن دعم لائحة الطعن، ما يعكس ثقل الخلفية الحزبية في التأثير على "حرية الضمير" المكفولة للنواب الذين يُفترض أنهم يمثلون الشعب وليس الحزب، وأنهم أحرار في تقييم المشاريع المعروضة على البرلمان بعيداً عن الانضباط الحزبي العسكري.
اقرأ أيضاً: المصادقة على قانون القضاء التونسي تثير مشكلة سياسية
على الرغم من تراجع النائبين، تتحدث بعض المصادر القانونية في تونس عن إمكانية قبول هيئة مراقبة دستورية القوانين للائحة الاعتراض. في المقابل، تشير مصادر أخرى إلى إسقاط اللائحة والتحول مباشرة إلى المرحلة الموالية، أي امتناع رئيس الجمهورية عن توقيعه وإعادته من جديد إلى مجلس نواب الشعب.
وطالبت هياكل قضائية ومنظمات حقوقية رئيس الجمهورية بعدم توقيع القانون، لأنه تضمن جملة من الخروقات الدستورية، ما سيدفع بالقضاة إلى مقاطعة المجلس الأعلى للقضاء، فضلاً عن تداعياته السلبية على سير مؤسسات الدولة.
وحمّلت الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني والهياكل النقابية في بيان لها مسؤولية الدفاع عن حق المواطن في قضاء مستقل والتصدي للمساس بمنظومة الحقوق والحريات وخرق الدستور. وصدر البيان عن جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة التونسيين واتحاد القضاة الإداريين والمجلس القطاعي للمحكمة الادارية والمجلس القطاعي لدائرة المحاسبات والجمعية التونسية للقضاة الشبان والمرصد التونسي لاستقلال القضاء.
ويبقى السؤال مطروحاً على الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، فيما إذا كان سيتكفّل وفق ما يتيحه له القانون بضمان حماية الدستور، وسيقرّ وفق انتظار القضاة، أنّ بعض فصول هذا القانون متعارضة بالفعل مع الدستور أم لا. وفي حال اعتبره متعارضاً، فإنّه بذلك سيعارض نواب حزبه وكل نواب الائتلاف الحكومي الذين صوتوا لصالح تمرير القانون، ما سيخلق إشكالية سياسية، يُفترض أن يتخطّاها السبسي بحكم أنّه رئيس لكل التونسيين وليس لحزبه أو حكومته. هكذا، يواجه السبسي بعد عودته من الولايات المتحدة، امتحاناً آخر في حسم فصل السلطات أو تداخلها.
اقرأ أيضاً: قانون تونسي يحمي الأمن ويهدد الحريات الصحافية