تونس.. التعاون العسكري والسيادة الوطنية

30 أكتوبر 2016

قوات تونسية على الحدود مع ليبيا (6/2/2016/فرانس برس)

+ الخط -
طفت على السطح، أخيراً، وبشكل لافت، تصريحات لمسؤولين تونسيين رسميين، أبرزهم وزير الدفاع فرحات الحرشاني عن وجود قواعد عسكرية خفية أميركية على الأراضي التونسية، وهي تصريحات تؤيد أخرى عديدة، صدرت عن أعضاء السلك الدبلوماسي، وكلها تذهب في هذا الاتجاه، في حين ظلت تصريحات زعماء المعارضة، أو وجوه محسوبة على المجتمع المدني محتشمة، بل غائبة، وقد تكون قلة المعلومات، وحساسية المسألة واعتبارها من مكونات الأمن القومي وراء هذا العزوف عن الإدلاء بأي موقف. ولكن، على الرغم من ذلك، خاضت التصريحات الإعلامية، وحتى بعض البيانات الرسمية في الأمر، ولم يعد الحديث عنها من المحرّمات، وتلك ثمرة من حرية الإعلام التي ننعم بها في تونس بعد الثورة. تصب كل التصريحات الرسمية في خانة نفي وجود أي قواعد عسكرية على الأراضي التونسية، لكنها تضيف، في الوقت نفسه، أن لتونس تعاونا عسكريا متينا مع عدة بلدان غربية، منها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، خصوصا أنه قد تزايدت المخاطر الإرهابية التي تحدق بالبلاد مند خمس سنوات تحديدا. بل صدرت بياناتٌ رسميةٌ، قبل أسابيع، تؤكد وجود عشرات الجنود البريطانيين والألمان الذين حلوا، في الأسابيع القليلة الماضية، في تونس، من أجل تطوير القدرات العسكرية للجيش التونسي وإجراء التدريبات اللازمة معه.
تطرح هذا المسألة في سياق عام يتسم بجملة من المخاوف المشروعة أحياناً، والمبالغ فيها أحيانا أخرى، وقد تصل إلى حد المزايدة، من أن يكون هذا الوجود منخرطاً في مشروعٍ خفيٍّ لإرساء قواعد عسكرية خفية دائمة في البلاد، خصوصا أن الغموض ظل يحيط بهذه المسألة، في ظل جملةٍ من المؤشرات المتتالية التي بدأت منذ أمضى مستشار رئيس الجمهورية آنذاك، محسن مرزوق، مذكّرة التفاهم للتعاون طويل المدى بين تونس والولايات المتحدة الأميركية، في أواخر مايو/ أيار 2015، وهي المذكرة التي كانت وما زالت تثير جملة من الأسئلة بشأن طبيعتها القانونية (مذكرة تفاهم أم اتفاقية؟) والأهمية القانونية لمرزوق في أمر إمضائها، ناهيك عما ورد فيها، خصوصا في مجال التعاون العسكري. ومما زاد هذه المخاوف والشكوك لدى النخب التونسية، ولدى بعض دول الجوار، منح تونس صفة الحلف السياسي الأساسي من خارج حلف شمال الأطلسي، في الزيارة نفسها، ووفق تصريح الرئيس باراك أوباما نفسه.
ولكن، لا يمكن فهم كل ردود الأفعال هذه، بما فيها الصمت، وهو لا يقل بلاغة عن
التصريحات الأشد صراخاً، من دون العودة إلى التراث السياسي والعسكري للبلاد التونسية، الذي لا يذكر مطلقاً وجود قواعد عسكرية أجنبية على التراب التونسي، منذ الاستقلال تقريباً، (معركة الجلاء في بنزرت سنة 1961)، ويحفظ للرئيس الراحل الجبيب بورقيبة رفضه كل المحاولات التي مارستها بعض البلدان، من أجل الحصول على موافقته، لبناء قواعد عسكرية، والتي لم تخل أحيانا من إحراجات وضغوط. أصر الرجل على خلو البلاد من مثل تلك القواعد، على الرغم من الوضع الجيواستراتيجي الذي لم ينصف كثيراً البلاد التي تقع بين دولتين شقيقتين، يفوقانها مساحة وموارد طبيعية. وتروي مذكراتٌ عديدة، نشرها من عاصروه من وزراء ومسؤولين كبار في الدولة آنذاك موقفه الحاسم من هذه المسالة. وعلى الرغم من أن البلاد مرت باختباراتٍ قاسيةٍ من محاولات التدخل العسكري، لعل أشهرها أحداث قفصة (يناير/ كانون الثاني 1980) التي يبدو أن بعض دول الجوار كانت متورّطة فيها إلى جانب مجموعات عسكرية تونسية، كانت بمثابة خلايا نائمة، فإن بورقيبة لم يسمح بوجود قواعد عسكرية، غير أن ذلك لم يمنعه من الاستنجاد بأصدقائه الفرنسيين آنذاك.
لكن، علينا أن نوضح أن الدولة التونسية، في تلك الفترة أو بعدها، لم تكفّ عن تقديم تسهيلاتٍ عسكرية، من حين إلى آخر. وقد أشارت تصريحات بعض المسؤولين إلى مثل هذا الأمر، فالتدخل العسكري الأجنبي، سواء في أثناء الثورة الليبية أو ما بعدها (الضربات الجوية التي استهدفت مواقع الجماعات الإرهابية) اقتضى تنسيقاً وتعاوناً مهماً على هذا الصعيد.
يعتقد خبراء عديدون أن ذلك ما كان ليحدث، لولا تعاون تونس العسكري مع "حلفائها" وأصدقائها الذين يسروا تلك الضربات، غير أن الثابت أيضا أن مجالات التعاون لم تكن لتكتفي بالجانب اللوجستي، بل تجاوزته إلى مجالاتٍ أخرى ذات صلة. وتزداد الشكوك، وقد توسعت رقعة الأراضي العسكرية التي أعلنت مناطق مغلقة، يعسر على الناس دخولها في ظل قانون الطوارئ الذي يشدّد على حركة الجولان، بل يمنعه أصلاً. خصوصا أن تلك المناطق جلها متاخمةٌ للحدود التونسية الليبية التي تشهد محاولاتٍ عديدةً للاختراق من شبكات الإرهاب والتهريب.
يبدو أن الرأي العام، وتحت الخشية من تمدد "داعش"، خصوصا بعد دحرها في سرت، لم يعد
معادياً لمثل هذه التعاون، بل وحتى "التسهيلات" على خلاف تلك الحساسية المفرطة التي طبعت عقوداً طويلة من تاريخ المعارضة التونسية وحركاتها الطلابية والشبابية. كما أن تجهيز الجيش التونسي الذي عاقبه بن علي، ونكل به، عقوداً طويلة، والرفع من كفاءاته وجهوزيته في مواجهة غير تقليدية، ولا متكافئة، قد أباحت ما كان محظوراً سابقاً، فالضرورات تبيح المحظورات، ما دام لا شيء يدل على تنازلٍ ما عن مبادئ السيادة الوطنية.
غير أن ما ينغص على الجميع هذا "التفهم" هو التحفظ الجزائري على مثل هذه المبادرات التي تعتبرها الجزائر أحادية الجانب، خصوصا أن أزمة الثقة تتعاظم أكثر من أي وقت مضى، وقد صرح المسؤولون الجزائريون، مراتٍ، أن تونس جزء من أمن الجزائر، ما يضفي على الأمر حساسيةً قصوى، قد تلقي بظلالها على مستوى العلاقات بين البلدين التي يبدو أنها تمر حالياً بموجة بردٍ، لا أحد يستطيع إنكارها، أو توقع زوالها قريباً.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.