تفاصيلُنا الأولى المهمّشة

19 يناير 2019

(صفوان داحول)

+ الخط -
هناك دائما زوايا هامشية في حياتنا الشخصية، وفي تفكيرنا، بدءا من طفولتنا الأولى، مرورا بمراهقتنا وشبابنا. هناك تفاصيل جانبية، نادرا ما ننتبه إليها، ولكن أثرها الكبير والواضح علينا، وعلى تنشئتنا وعلى سلوكنا، يعلن عن نفسه دائما، منبها إيانا إليها، وكأن هذا الأثر جرسٌ يرنُّ في دواخلنا، لتنبيهنا إلى هذه التفاصيل الجانبية والهوامش، كي لا ننساها في زحمة الحياة، وفي أثناء الاستغراق في المتون المتعدّدة. هناك أيضا أفكار هامشية داخل عقولنا، قد لا تعني شيئا، ولا فائدة لها، لو نظرنا إليها وحدها، منفصلةً عن باقي ما يختزنه العقل، لكن نتاجنا العقلي لا يمكنه أن يكتمل بعيدا عنها أو بدونها.
لا يمكن لأي فعل عقلي، إبداعي، خصوصا، أن يكون نتيجة للأفكار العقلية الكبيرة فقط. ينشأ الإبداع من تسرّب الهامشي والثانوي في لاوعينا إلى الوعي المحمّل بالأفكار الكبيرة والواضحة، حيث يشتغل الوعي على دمج الاثنين معا. عملية الدمج هذه تخلق نتاجا جديدا، هو ما نطلق عليه اسم الإبداع، أفكار العقل الواعي وحدها لا يمكنها أن تخلق فعلا إبداعيا، فالإبداع يحتاج إلى الخيال، نبع الخيال هو اللاوعي، ومسربُه يمر عبر الوعي، ويصبُّ في أداة العملية الإبداعية، سواء أكانت الأداة هي اللغة أو الصوت أو الموسيقى أو الجسد أو العدسة والعين أو اللون والأصابع التي تشكّل ما تشكّل، أو حتى المعادلات الرياضية المنتجة للاختراعات العلمية؛ دائما، في ذلك كله، هناك ما هو ثانوي هامشي، متلاحم مع المتن الأساسي، ينتج لنا الأفعال الإبداعية على اختلافها!
حين نتذكّر طفولتنا، ما تستدعيه الذاكرة، مباشرة، هو الخطوط العريضة من تلك الطفولة، رفاق اللعب والمدرسة الابتدائية، أسماء بعض المعلمات والمعلمين، البيت الذي سكنّا فيه، مدارسنا التي تعلمنا فيها، حاراتنا، أشكال أهلنا وملابسهم ذلك الوقت، الهوايات التي كنا نمارسها، ثم ما قرأناه من كتب، وما سمعناه من موسيقى وأغان، أول دقّة قلبٍ شعرنا بها، أول لمسة يد، أول قبلة، إلى ما هنالك من عناوين في الذاكرة الشخصية لكل منا، لكنها تكاد تكون مشتركةً بين جميع البشر في عمومياتها، بيد أن ثمّة تفاصيل أخرى تحتاج جهدا قليلا لاستحضارها من خفايا الذاكرة ومخابئها، تلك التفاصيل هي ما يمكن تسميتها التفاصيل الثانوية أو الهامشية، لكنها هي الأساس الذي نشأت عليه شخصياتنا الحالية.
الذاكرة تشغل أحيانا تقنية التصفية، فتحيد جانبا كل ما يمكنه أن يكون مصدرا للقلق أو التوتر السطحي. لا تميته، بل ترسله إلى طبقات اللاوعي، ليظهر عندما نستدعيه، أو تستدعيه حوادث طارئة ومفاجئة، فمثلا، تتجاهل الذاكرة الاعتداءات التي تعرّض لها كثيرون منا من الأهل أو الأقارب أو المدرسين، اعتداءات نفسية وجسدية، تتجاهل التعنيف والتنمّر، تتجاهل المشكلات الأسرية الكبيرة بين ربّي الأسرة، تتجاهل الفروق الطبقية والمذهبية والاجتماعية مع المحيط، تتجاهل معظم ما يتعلق بالآخرين المحيطين بنا، والذين أثّر مسار حياتهم على حياتنا بقدر تأثير مسار حياتنا عليهم. نحن نعيش حياتنا من دون أن نكترث بما تتركه حيوات الآخرين القريبين منا من أثرٍ علينا. نحن نتأثر حتى باختيارات المقرّبين لما يريدون أن تكون عليه حيواتهم. أتحدث هنا عن الحياة الطبيعية التي يعيشها البشر، لا عن حياتهم في أثناء الحروب والكوارث والأحداث العامة الكبرى والمفصلية، فلذلك شأن آخر.
ما يميّز كتب السير الشخصية، أو الأفلام السينمائية عن حياة صنّاعها، استدعاء تلك التفاصيل المسمّاة هامشيةً من مخابئ الذاكرة وطبقات اللاوعي، وتسليط الضوء عليها لجعلها متنا يمكن البناء عليه في عمل إبداعي مهم، وبالغ الخصوصية. وربما يمكن القول إن هذا لا ينطبق فقط على الأعمال الخاصة بالسير الشخصية، فثمّة في معظم الأعمال الفنية والأدبية الكبيرة مساحة كبيرة لتفاصيل هامشية، يستدعيها المبدع من ذاكرته، ويضعها في سياق العمل. هكذا تصبح الذاكرة الشخصية جزءا من ذاكرة عامة، متاحة للجميع، ويشترك بها الجميع. غالبا، ما نجد أنفسنا، نحن المتلقين، في عمل إبداعي ما، نقول: "كأنه يتحدّث عني" أو "هذه التفاصيل أعرفها". ونحن لا نعرف التفاصيل التي يتحدث عنها عمل ما، نحن فقط نمتلك في ذواكرنا المخابئ ذاتها، الممتلئة بتفاصيل هامشية وثانوية تُرهق أرواحنا. نرى مثلها بعيون غيرنا، فنستدعي ما يشبهها فينا.
يمكن القول أيضا إن الهامشي في تفاصيل حياتنا هو متن الصفحات الأولى الذي يؤسس لما سيأتي. وغالبا، حين نقرأ كتابا ما، ننسى صفحاته الأولى التي قرأناها في البداية، نتذكّر منها مشهدا عاما. أما التفاصيل فيجب أن نقرأها من جديد، كي نتذكّرها كاملة. الذاكرة بلاوعيها ووعيها تشبه هذا الكتاب.
دلالات
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.