وشهدت الليلة الماضية، تسخيناً عسكرياً بعد أن ردّ الجيش التركي على قصفٍ من قبل قوات النظام استهدف نقطة جديدة له أنشأها في قرية الترنبة غربي مدينة سراقب، ما أوقع ستة من جنوده قتلى فيما أصيب آخرون. أما حصيلة الرد التركي فكانت خسارة النظام لـ 35 من جنوده، بحسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي رفع من حدة تصريحاته، صباح اليوم الإثنين، قبيل توجهه إلى أوكرانيا في زيارة رسمية.
وأكد أردوغان، أنّ قوات بلاده تواصل الرد على هجوم قوات النظام السوري في محافظة إدلب، داعياً الجانب الروسي إلى عدم وضع العراقيل أمام بلاده في الرد على قصف الجنود، قائلاً: "لستم الطرف الذي نتعامل معه، بل النظام (السوري) ونأمل ألا يتم وضع العراقيل أمامنا".
وأعلن أنّ "الضباط الأتراك يتواصلون مع نظرائهم الروس بشكل مكثف ونواصل عملياتنا استناداً لذلك"، موضحاً أنّ "سلاح المدفعية وطائرات الـ F16 التركية ما تزال ترد على قصف جنودنا في إدلب حتى اللحظة"، موضحاً أن "سلاح المدفعية التركية ردّ بـ 122 رشقة إلى جانب 100 قذيفة هاون على 46 هدفاً للنظام السوري".
وشدد الرئيس التركي على تصميم بلاده على مواصلة عملياتها في سورية، "من أجل ضمان أمن بلادنا وشعبنا وأمن أشقائنا في إدلب"، مضيفاً أنّ "من يختبرون عزيمة تركيا عبر هذه الهجمات الدنيئة سيعلمون أنهم يرتكبون خطأ فادحاً".
إلا أنّ وزارة الدفاع الروسية، نفت ما أورده الرئيس التركي من معلومات حول مشاركة المقاتلات التركية في الرد على هجمات قوات النظام ضد النقطة التركية، وقالت إنّ "وحداتٍ تركية تحرّكت في إدلب دون إخطار روسيا، وتعرّضت لقصف سوري استهدف الإرهابيين، ما أدى إلى جرح عدد من العسكريين الأتراك"، مضيفةً أنّ "الطائرات التركية لم تدخل أجواء سورية، ولم يتم تسجيل ضربات ضد مواقع القوات السورية". وزعمت كذلك أنّ "سلاح الطيران الروسي يسيطر بشكل كامل على الأجواء في محافظة إدلب".
ويأتي التكذيب الروسي لتصريحات الرئيس التركي، ضمن التباين في المواقف والرؤى بين روسيا وتركيا حول إدلب، وهذا ما انعكس فوراً من خلال تكذيب وزارة الدفاع الروسية للرئيس التركي، ما قابله امتناع الجانب التركي عن المشاركة في دورية اعتيادية مشتركة بين الجيش التركي والشرطة الروسية شرقي الفرات، إذ حضر عناصر الدورية من الطرف الروسي، فيما امتنع الأتراك عن الحضور.
بيد أنّ جدية تركيا في التعامل مع هذا المتغيّر، ستكون أمام تكهنات مختلفة، فقد تعرضت نقطة المراقبة التركية في شير المغار بريف حماة لقصف مشابه من قبل النظام، بالتزامن مع المعارك التي دارت بين قوات النظام وفصائل المعارضة، وامتدت بين إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب من العام الماضي، ما أسفر عن مقتل ضابطٍ تركي. واقتصر الرد التركي حينها، على قصف خجول استهدف نقاطا لقوات النظام في ريفي إدلب وحماة، وذلك بعد أن كرر النظام استهدافه للنقاط التركية، حين استهدف نقطة مورك بالريف الشمالي من حماة، ومن ثم حصارها فيما بعد، فيما تلت ذلك تبادلات نارية متكررة، لم ترق إلا لوصفها بالمناوشات.
وخلال المعارك الحالية، التي بدأها النظام السوري، في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، جنوبي شرق إدلب، تعرّض محيط نقطة المراقبة التركية في قرية الصرمان قرب معرة النعمان لقصف من قبل قوات النظام، ولم يسجل أي ردٍ عليه، وذلك قبل حصار النقطة، مطلع العام الحالي، إثر تقدم النظام نحو مدينة معرة النعمان، كبرى مدن جنوب إدلب.
ويعد الرد الحالي التركي الأعنف والأكبر، إذ لم يقتصر على استهداف مصادر النيران، بل طاول نقاطا أعمق لقوات النظام في كل من اللاذقية وريفي حماة وحلب، وشاركت فيه النقاط التركية في "منطقة خفض التصعيد" (إدلب وما حولها)، وقواعد تركية في ريف حلب الشمالي، وقواعد داخل الأراضي التركية، بالإضافة لسلاح الجو.
إلا أنّ قوات النظام، وبالرغم من هذا التطور لا تزال تتقدم في محيط سراقب، بنية فرض طوق عليها قبل اقتحامها، بحسب استراتيجيتها المتبعة في أغلب المناطق التي هاجمتها، ولا سيما المدن الكبيرة، في حين عمد الجيش التركي، في الأيام الماضية، لحماية المدينة من تقدم النظام، من خلال إنشائه أربع نقاط من جهات المدينة الأربع، قبل أن يقصف النظام آخرها غرب المدينة.
ولا شك أنّ التعزيزات الضخمة التي دفع بها الجيش التركي، أمس الأحد، والتي وصلت إلى ريفي إدلب وحماة والمناطق القريبة من خطوط المواجهات، تشير إلى تبدل في الموقف التركي ميدانياً. ويشير محللون عسكريون إلى أنّ تلك التعزيزات، والتي ضمت مئات الدبابات وناقلات الجنود والمدافع، لم تكن أنقرة لتدفع بها، لولا نيتها وضع احتمالات جديدة لقواعد اللعبة في إدلب، وانتقالها لمرحلة الهجوم أو الدفاع، عوضاً عن الوقوف متفرجة.
الرد سيتواصل
ويرى يوسف كاتب أوغلو وهو سياسي تركي مقرّب من الحكومة، أنّ "الرد التركي لن يقتصر فقط على مصدر الاستهداف، وإنما سيكون لتأمين منطقة آمنة ومنع تقدم قوات النظام السوري باتجاه تركيا".
وأفاد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأنّ "الرد هو مؤشر حقيقي لما آلت إليه الأمور، بسبب استمرار خرق وقف إطلاق النار من قبل قوات النظام السوري، وعدم الالتزام بمخرجات اتفاق سوتشي ومباحثات أستانة، حيث كان هناك التزام من قبل الأطراف التي ضمنتها تركيا (قوات المعارضة السورية)، في مقابل خروقات مستمرة من قبل النظام ومحاولات التقدم وتهميش ما تم التوافق في سوتشي وأستانة وإبعاد الحلول السياسية جانباً، واستخدام سياسة التمييع والتسييس والقضم للمناطق بذريعة محاربة الإرهاب، وبناء على ذلك تم الإعلان عن موت كل الاتفاقيات التي أُبرمت، وانتهاء التفاهمات المتفق عليها في سوتشي".
وأضاف كاتب أوغلو: "تركيا لن تسمح بأن يكون هناك استهداف لحدودها وأمنها القومي، واستهداف مستمر لمن وثقوا بها وخصوصاً من أنصار المعارضة الموجودين بالملايين على أراضي إدلب ومحيطها وحدود تركيا، ولن تقف بعد اليوم حيال المجازر التي تحدث بحقهم وعمليات التهجير القسري مكتوفة الأيدي"، لافتاً إلى أنّ "الأمر تطور لاستهداف الجنود الأتراك المتمركزين في إدلب بناء على اتفاقيات موثقة وموقعة، والذين استهدفوا من جنودنا كانت قد أعطيت إحداثيات نقاطهم إلى الجانب الروسي، وبالتالي استهدافهم يعتبر نوعاً من الاستفزاز المستمر من قبل قوات النظام السوري القاتل، وتركيا ردت بالمثل".
منطقة آمنة
وأوضح كذلك أنّ "تركيا لن تكتفي بالرد بالمثل، وهنا النقطة المهمة، وهي ستواصل الرد ولن تسكت وستصعد أكثر، حتى تكون هناك منطقة آمنة للمدنيين، وهذا هو الهدف من التدخل التركي في سورية وإدلب تحديداً، وهو إيجاد منطقة آمنة بالمطلق كي لا يكون هناك تهديد لأمن تركيا القومي، وعدم إحداث تغيير ديمغرافي وهجرة معاكسة والحد من نزوح الملايين مرة أخرى من إدلب إلى تركيا، وتركيا ستفرض هذه المنطقة بالقوة بعدما حاولت دبلوماسياً وسياسياً ولكن جهودها فشلت في هذا الإطار، وكانت النتيجة آلاف الضحايا والمزيد من النازحين، والآن اختلط الدم السوري بدم جنود تركيا، التي تأبى سياسة القتل والإبادة، وبالتالي سيكون هناك تصعيد تركي أكبر بدأ صباحاً ولا يزال مستمراً، وسيكون هناك رد أكبر مما يتوقعه النظام السوري".
مستقبل العلاقات التركية - الروسية
وحول مستقبل العلاقات التركية – الروسية بعد هذا التصعيد، ولا سيما ما يخص تفاهماتهما حول ملفات سورية متعددة، لفت كاتب أغلو إلى أنّ "الجهات العليا في تركيا أبلغت روسيا، بأنها ليست الهدف للرد التركي وإنما الهدف هو النظام، ولا شك أن هذه التطورات ستلقي بظلالها بقوة على العلاقات والتفاهمات التركية – الروسية، ولا سيما فيما يتعلق بإدلب والملف السوري عموماً، وربما ستكون هناك اتصالات دبلوماسية مكثفة لإبعاد أي احتمالية تصادم مباشر".
وزاد موضحاً "هناك علاقات اقتصادية وأمنية وسياسية بين البلدين، وتركيا لا تريد أن يكون هناك تصعيد على حساب هذه العلاقات، وعندما ردت تركيا بالمثل فإنها احترمت الاتفاقيات مع روسيا، لكن في المقابل هناك عدم احترام من قبل الطرف الآخر (القوات الروسية)، التي شكلت الغطاء لهجمات النظام السوري، ما حمل تركيا على التنديد بذلك مراراً، ولا شك أن روسيا ستعمد إلى تبرير ذلك بحجة شرعية النظام".
وتعد سراقب وقبلها معرة النعمان وخان شيخون، وأجزاء كبيرة في أرياف إدلب الجنوبي والشرقي وحماة الشمالي، ضمن "منطقة خفض التصعيد"، التي عمد النظام بإسناد روسي إلى قضمها تدريجياً رغم إقرارها ضمن تفاهمات أستانة في مايو/ أيار 2017، بين الضامنين الثلاثة (تركيا وروسيا وإيران)، من ثم إبرام اتفاق سوتشي حولها، في سبتمبر/ أيلول من عام 2018 بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والذي يقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح حول تلك المنطقة. إلا أنّ النظام وحلفاءه الروس ضربوا عرض الحائط بكل الاتفاقات السابقة وقضموا أجزاء واسعة من المناطق المعنية بها، ولم يلتزموا بالمطلق باتفاقيات وقف إطلاق النار المتعددة كذلك، ما يجعل الأتراك يشعرون بالغبن حيال التزامهم أحادي الجانب فيما يتعلق بإدلب، مقابل عنجهيةٍ روسية لم تقم وزناً للاتفاقات، ما يجعل التصعيد الأخير اختباراً جدياً لصبر الجانب التركي.