بين غزّة والبصرة

27 يوليو 2018

احتجاج في البصرة ضد الحكومة العراقية (15/7/2018/الأناضول)

+ الخط -
لو أننا لسنا في عصر الصورة الباذخة، وزمن ثورة الاتصالات الرقمية المتعاظمة، التي جعلت العالم من حولنا مجرّد حارة صغيرة، تُسمع فيها "دبّة النملة"، ويُرى بأم العين ما وراء الأبواب الموصدة، لما كان في وسع المرء التأكد من صحة تقارير إخبارية تكاد تدخل في باب "صدّق أو لا تصدّق"، ولا كان في حول المتلقين أخذ الأمر على محمل الجد، لشدة ما تنطوي عليه بعض مقاطع الفيديو المبثوثة من عين المكان، من مشاهد مفاجئة، حتى لا نقول صادمة لذوي الأفكار المسبقة، وغير متوقعة لدى أصحاب الانطباعات القديمة، والمفاهيم النمطية المستقرّة في الوعي العام، إزاء حدثٍ جرى هنا، أو واقعة دوّنت هناك.
من بين جملة التقارير الإخبارية المنقولة بالصوت والصورة، في غضون الأسابيع القليلة الماضية، مرّ مشهدان معطوفان على الحالة الإيرانية المتقلبة في ديار العراق والشام، ودالان على آفاقها المحتملة، تكوّنا على التتابع، كل على انفراد، خارج التوقعات الممكنة، من دون أن يثير أي منهما ما يستحقه الموقف من نقاش، أو ما يقتضيه الأمر من تأمّل وإمعان نظر في عجائب هذا الزمان؛ أولهما كان مسرحه في غزة التي دخلت في وضع يكسر القلب، ويبعث على أسوأ الاحتمالات السيئة، والثاني في البصرة التي تتفصّد عرقاً وغضباً هذا الصيف اللافح، وتُنذر بأخذ بلاد الرافديْن إلى ما لم يخطر على البال حتى الأمس القريب.
لمقاربة كل من المشهدين آنفي الذكر على نحو أيسر، ولفهم المغزى المشترك لهما بصورة أوضح، سنعكس السياق الزمني للحدثين المثيريْن للخيال، لنبدأ بالمشهد الثاني، عرضاً 
وتشخيصاً، قبل الرجوع إلى الأول، تذكيراً وتلخيصاً، لعل في ذلك ما يُساعد على إعادة بناء صورةٍ أشمل، وإجراء تقدير موقفٍ يفي بالغاية المنشودة وراء هذه المداخلة النظرية، المشتبكة مع متغيرات النفوذ الإيراني المتسارعة في المنطقة العربية (من صعدة إلى غزة إلى البصرة)، وتحولاته الدراماتيكية المرتقبة في المدى المنظور، وهي تحولاتٌ لا تزال في طورٍ من المد والجزر، تراوح في مكانها بعد، وتراوغ عشية ما قد يلي من انعطافاتٍ كبرى، تشي بها الاستراتيجية الأميركية، المتضمنة فرض عقوباتٍ هي الأشد من نوعها في التارخ المعاصر، حُزمتها الأولى في أوائل أغسطس/ آب المقبل، أي بعد أيام.
في بدايات ما اصطلح على تسميتها "ثورة الجياع" في العراق، تلك الحراكات التي انطلقت شرارتها من البصرة، ولا تزال تواصل انتشارها في الهشيم القابل للاشتعال بسرعة، من الجنوب إلى الوسط، وربما إلى الشمال في مقبل الأيام، وقع مشهد لافت في المدينة العراقية الواقعة، على نحو أكثر من شقيقاتها، تحت سطوة المليشيات المذهبية، ذات الولاء السياسي لإيران، حين أحرق المتظاهرون الغاضبون مجسّما لآية الله الخميني، وبعض صوره أيضاً، في مشهد غير مسبوق، ولم يكن متوقعاً على الإطلاق، في البلد المستباح من جارٍ يرى نفسه مرجعاً أول، وولي أمر كل الشيعة، لا سيما الشيعة العرب الأقحاح في أرض السواد.
أن تُحرق صور الخميني ومجسّمه، في أي من مناطق النفوذ الحيوي لطهران في الجوار المستباح، ويهتف المتظاهرون بشعاراتٍ رافضة تدخل آيات الله الفظ في الشؤون العراقية، مثل "إيران برا برا، والبصرة حرة حرة"، فذلك حدثٌ كبيرٌ في حد ذاته، فما بالك إذا وقع مثل هذا الفعل الاستثنائي في أكثر البلدان العربية خضوعاً للهيمنة الإيرانية، المتجلية في التأثير حتى على تشكيل الحكومات، وتسمية رئيس مجلس الوزراء، والانتخابات كذلك، الأمر الذي يشير إلى متغير بالغ الأهمية في المزاج السياسي العراقي المحتدم كابراً عن كابر، ويقدم دليلاً واضحاً على بداية انحسار الهيمنة الإيرانية، قد يشتد ويتعمق أكثر، مع مرور مزيدٍ من الوقت، خصوصاً إذا ما قُدر لهذه الاحتجاجات الشعبية أن تُفرز لجانها التنسيقية وقيادتها الميدانية، وأن تجترح خطاباً ملهماً لجماهير عريضة، أعيتها المحاصصات وأفقرها الفساد.
على أنه في الوقت الذي كانت فيه البصرة تخلع قميصها الإيراني الفضفاض ببطء، وتبدأ في إدارة ظهرها لطهران رويداً رويداً، كانت غزة تمضي، مع الأسف الشديد، عكس اتجاه عقارب الساعة، وتفتح ذراعيها المنهكتين لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني، على نحو ما أظهره خطاب مسجل "فيديو" ألقاه الجنرال المكروه من ملايين السوريين 
والعراقيين والعرب الآخرين، على مسامع جمع من قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، المجتمعين خصيصاً لهذه المناسبة النادرة في القطاع المحاصر، في مشهدٍ تزلفيّ مثير للهواجس والتحسّبات، أحسب أنه سيثقل على المحاصرين في غزة أكثر فأكثر، ويمنح طهران ورقةً تسوّغ لها الادعاء أنها تسيطر على أربع عواصم، وفوقها حبة مسك على الحساب، اسمها غزة.
ليس مفهوماً، لدى فلسطينيين كثيرين خصوصاً، والعرب عموماً، مثل هذا الارتماء المجاني في أحضان إيران، لا سيما في زمن الضغط الأميركي الهائل، والجري بعيون مغمضة وراء قاسم سليماني تحديدا، لا سيما وأن قادة حركة حماس لم يكتفوا، قبل أشهر قليلة، بإرسال برقية مواساة للجنرال الوالغ في دم السوريين حتى الرُكب، بل زار وفد حمساوي رفيع طهران، لتقديم واجب العزاء بوفاة أم سليماني أو أبيه، في تصرّفٍ غير معهود في مثل هذه المناسبات التي لا يليق فيها التزيّد، ولا تنفع معها المبالغات، وهو ما يطرح سؤالاً، لا يتعلق بقلة الحساسية هذه تجاه مشاعر ملايين العرب المكلومين، وإنما أساساً بسر هذا التعلق الشديد بالجنرال الذي يمثل رأس الحربة المسمومة في المشروع التوسعي الإيراني، في وقت وصل فيه هذا التوسع إلى الحائط المسدود، ومالت شمسه إلى الغروب.
وهكذا، وعلى الرغم من الفارق الضئيل في الوقت بين انجلاء مشهدٍ غزّي كسيف، ولا طائل من ورائه، إن لم نقل إنه كان فائضاً عن الحاجة، وفي غير محله بتاتاً، صنعه اليأس والاستعجال للخلاص من الضائقة المستحكمة، وربما أفرزته عقلية الحصار والسجن المقام في الهواء الطلق، وبين مشهد بصري عراقيٍّ مفعمٍ بروح التحدّي، والرغبة في الانعتاق من قبضة نظام الملالي، انعقدت هذه المقارنة المسكونة بحسٍّ من الأسى والالتياع، حيال استمرار حكومة الأمر الواقع في غزة، الذاهبة في المكابرة وسياسة الإنكار حتى النهاية، والمستهدفة من جبهة واسعة من الخصوم والأعداء، في السباحة ضد تيار نهر جارفٍ، يتضاعف فيه تدفق المياه العكرة مع طالع كل شمس، وتقترب فيه مستويات الحياة إلى ما تحت نقطة الصفر، حيث لا ينفع سوى سعة الأفق، والكفّ عن معاندة الحقائق القاسية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي