بين الوفرة العمليّة و"التصلّب الفكري"

11 اغسطس 2015
(باريس: منشورات المركز الوطني للبحث العلميّ، 2015)
+ الخط -
لتأريخ العلم مداخل عديدة. منها الأفكار والنظريّات والاكتشافات والابتكارات التي ينتجها الفاعلون في الوسط العلميّ. ومنها التاريخ الاجتماعيّ للأفكار العلميّة والمؤسّسات الحاضنة لها وللفاعلين من الباحثين وما يقوم من مدارس وتيارات ومجموعات وشبكات. بيد أنّ فرنسواز فاكي، في كتابها الصادر حديثاً عن منشورات المركز الوطني للبحث العلميّ بفرنسا بعنوان "النظام الماديّ للمعرفة: كيف يشتغل العلماء، بين القرنين 16 و21"، اختارت مدخلاً طريفاً قوامه تتبّع التطوّر المذهل في الأدوات التي يستخدمها العلماء لتنظر في إشكال العلاقة بين التقنيّ والفكريّ وأثر الوسائل المادّيّة في إنتاج المعرفة وتبليغها.

فوضى التقنيات الفكريّة
وقد تجوّلت المؤلّفة في المكتبات والمخابر وقاعات الدرس والمحاضرات والمستشفيات وميادين عمل الجغرافيّين والأنتروبولوجيّين وعلماء النبات وأضرابهم. ونظرت في الكتب والمقالات والصور والرسوم والمعلّقات والمجسّمات ودفاتر المخابر ووسائل القياس والملاحظة والاختبار العلميّ والحواسيب والتطبيقات الإعلاميّة... إلخ. فكانت جولة بدأت بالقلم والورقة والجذاذة لتمرّ بالمحرار والمشرط والمجهر والمرصد الفلكيّ، لتصل إلى الرسوم بالرنين المغناطيسيّ والصور ثلاثيّة الأبعاد وما إليها.

في هذه الوفرة إلى حدّ الفوضى، كانت فاكي المؤرّخة المختصّة في إيكولوجيا المعرفة والثقافة العالمة بالغرب تستشفّ النظام المادّيّ للمعرفة انطلاقاً ممّا تسمّيه "التقنيات الفكريّة"، أي الأدوات المستخدمة لضبط المعلومة ومعالجتها وإنتاج المعرفة وتبليغها. ولم تنس في هذا الخضمّ أن التفكير يكون كذلك بأصابع اليد والحواسّ الخمس بعد تدريب الأعضاء المرتبطة بها وترويضها وتربيتها لتطوير قدراتها في إطار ما سمّاه مارسيل موس "تقنيات الجسد" باعتباره أداة للعلم وقوّة إنتاج معرفيّ.

فمن أكبر الثورات العلميّة ابتكار المجهر والمرصد الفلكيّ اللّذين مكّنا من تجاوز محدوديّة العين مثلما مكّن التطوّر المعلوماتي من الوصول إلى وقائع لم تكن في متناول اليد (والعين والفكر أيضاً)، بسبب اتّساع الأبعاد أو دقّة الأجزاء.

والواقع أنّ الكتابات عن تاريخ الأدوات العلميّة والحوامل المكتوبة والصيغ الشفويّة والمكتبات ودفاتر المخابر وغيرها كثيرة جدّاً، وقد ساهمت فيها فرنسواز فاكي نفسها في أعمال أخرى لها منشورة. إذ درست دور اللّاتينيّة كأداة تواصل علميّ وتناولت دور المشافهة في تبادل الأفكار بين الجامعيّين. بيد أنّ كتاب "النظام المادّيّ للمعرفة"، باتساع القرون الخمسة التي يغطّيها وتنوّع الاختصاصات التي يتناولها، يبرز ما لا يمكن في فترة محدودة أو اختصاص واحد إبرازه. فنحن لا نجد في الكتاب ما قد نتوقّعه من تأريخ لهذه الأدوات والحيثيّات المصاحبة لنشأة هذا الجنس أو ذاك من الخطابات العلميّة عدا بعض الإشارات المفيدة ولا ريب. منها تمثيلاً لا حصراً، أنّ الدوريّات العلميّة بدا ظهورها سنة 1665 وأنّ عمر جنس - الملصقات (Posters)، على قيمتها ودورها اليوم في التبادل العلميّ، لا يتجاوز الأربعين عاماً، عدا ما طرأ عليها بالتدريج من تطويرات.

تعايش بين تقنيات مختلفة
ركّزت المؤلّفة على تعايش التقنيات المختلفة وتفاعلها، إذ نجد لدى الباحث الواحد استعمالاً للكتاب والمقال الإلكترونيّ والمخطوط وقاعدة البيانات مثلاً. وهو ما يبيّن الترابط بين ما تتطلّبه العمليّات الذهنيّة من سهولة ونجاعة وما ينجزه الذهن من جمع للمعلومة وتحليل وتوزيع وإنتاج لها وما في العلم من أفكار كبرى ونظريّات وطرق تحليل وأنظمة للفكر. فقصد المؤلّفة من هذا التأريخ الماديّ هو إعادة قراءة الثقافة العالمة نفسها.

ويثبت التاريخ الماديّ أنّ سمة التكاثر والتعدّد قد حكمت تطوّر أدوات المعرفة وتقنيات الفكر. فعدد الدوريّات العلميّة في حدود سنة 1730 لم يكن يتجاوز 330 دوريّة في أوروبا كلّها. وناهزت سنة 1890 الألفين، لتبلغ في أوائل الستينات من القرن العشرين ثلاثين ألفاً تنشر سنويّاً حوالي مليون مقال. وبعد عقد واحد من ذلك، ارتفع عددها إلى أربعين الفاً، وبلغ عدد المقالات التي تنشر فيها 25 مليون مقال. ويعود هذا الانفجار المعرفيّ إلى تزايد التخصّص والإفراط فيه وظهور مجالات بحث جديدة مع التجديد المنهجيّ والنظريّ علاوة على تطوّر عدد الباحثين وضغوطات الارتقاء الأكاديميّ.

وينطبق مبدأ التكاثر على الأدوات والآلات والتقنيات الفكريّة. ففي حين لم يتعدّ عددها، في الثلاثينات من القرن الماضي، بضع مئات، نجدها في إحصاء أنجز سنة 1988 تفوق العشرة آلاف أداة.

لكنّ التطوّر الهائل في المخطوط أو المطبوع أو المصوّر أو الرقميّ يؤدّي أحياناً إلى زوال البعض منه، مثل القرص المضغوط، أو إلى التلاؤم أحياناً أخرى مع التطوّر التكنولوجيّ، مثل تحويل العرض الضوئيّ إلى تطبيقة "باور بوينت".

وتعاضِد سمةَ التكاثر سمةُ التمازج والتداخل. فأدوات الباحثين متعدّدة الصيغ مختلفة قدماً وجِدّة ولكنّها تتراكب وتتضافر بفضل مبدأ إدماج الوسائط المختلفة. فجلّ التقنيات الفكريّة تمتاز بمرونة تيسّر التفاعل بين المخطوط مثلاً والتقنيات عالية الجودة.

مفارقات الوفرة العلميّة
وفي الحالات جميعاً يفضي هذا إلى وفرة من المعلومات والمعارف المتاحة للباحثين الذين يشتكون من ضيق الوقت. وهنا تتناسل مجموعة من المفارقات. فكثرة الكتب والمقالات يصاحبها انعدام الوقت الكافي لقراءتها. وهو شعور قديم، فقد كتب أحد العلماء سنة 1738 ما يلي: "أن نستفرغ البحر من مائه لأسرع من أن نستنفد محيط الكتب الشاسع، وأن نحصي حبات رمل الشاطئ لأسرع عندي من أن نعدّ المؤلّفات الموجودة" (عن ناكي ص 250). فما بالنا اليوم مع ما توفّره الموارد الإلكترونيّة من منشورات وتوثيق علميّ وتقنيّ ونفاذ حرّ ومنظومات البحث عن المعلومات؟

ومن أمثلة هذه المتاهة أنّ في علوم الحياة ينضاف يوميّاً ما بين ألفين وأربعة آلاف مرجع منذ سنة 2005، وبلغ عددها سنة 2014 ما يناهز 700 ألف مرجع.

والمفارقة أنّ هذا الفيضان قد يؤدّي إلى تراجع علميّ وسقوط للحضارة وعودة إلى الجهل. فالوفرة تنشئ أمراضاً من قبيل "التصلّب الفكريّ" و"شلل المعالجة النقديّة" أو تكرار ما قيل أو التيه في غابة المعطيات تيهاً يجعل البحث قائماً على الصدفة.

لقد جعلت الوفرة الباحثين على عجلة من أمرهم لا يجدون حتّى الوقت للقراءة في اختصاصهم ولا الوقت لارتياد المكتبات. والأنكى أنّ المدرّسين الباحثين أصبحوا يقتطعون الوقت من هنا وهناك لكتابة بحوثهم! وإن كتبوا فهم يرون أنّ تطوّر المنشورات يصاحبه شعور بتقادم نتائج بحوثهم على نحو ما انفكّ يتسارع. فصلاحيّة مقال في الفيزياء سنة ألفين حدّدت بحوالي خمس سنوات، أمّا في الرياضيّات فهي تناهز العشر سنوات.

المادّي والذهنيّ
إنّ كتاب "النظام المادّيّ للمعرفة" يطرح على ما نرى، بعد أن تجاوزت المؤلّفة حيثيّات التأريخ المفصّل للتقنيات الفكريّة، إشكاليّة العلاقة بين التطوّر التقنيّ لأدوات المعرفة وتغيّر الذهنيّات المنتجة للعلم. فقد بات منذ جاك غودي واضحاً أنّ ابتكار الكتابة قد غيّر العمليّات الذهنيّة كما بيّن ريجيس دوبريه في نظريّته الوسائطيّة الصلة بين التطوّر الثقافيّ والعقليّ وتطوّر الوسائط الشفويّة والمطبوعة والتصويريّة والرقميّة.

ولكنّ عمل فاكي يخرج بنتائج تؤكّد تعايش الوسائط التي تعود إلى مراحل مختلفة تعايشاً منبنياً على الإدماج. فالتطوّر التكنولوجي لا يلغي مرّة واحدة الماضي ولا يلغي من ثمّة أطر التفكير السابقة المؤثّرة في منتجي المعرفة. وهذا لَمِمّا يشكّك في الطرح المتفائل التبشيريّ بدور العصر الرقميّ في تغيير العقليّات والذهنيّات. فالأرجح أنّ تاريخ الأدوات قائم على التطوير لا القطيعة وعلى التحديث لا التغيير. ولا شيء يدلّ، حسب المؤلّفة، على أنّ الوسائل الجديدة في إنتاج المعارف تغيّر من ابستمولوجيا العلم أو تؤثّر في أنماط التفكير والبنى المعرفيّة.

ولئن كان افتراض التلازم بين التطوّر العلميّ وتجويد أدواته افتراضاً مغرياً، فإنّ إخراج فرنسواز فاكي لأدوات المعرفة من هامشيّتها والنظرة الساذجة إليها لإبراز مادّيّة الأفكار ما يزال في حاجة إلى برهنة واستدلال مدقّقين لعلّ هذا الكتاب من فواتحه المهمّة.

(أكاديميّ وروائي تونسيّ)
المساهمون