ويستعد الناخبون في الدائرتين للاقتراع في السادس من مايو/أيار المقبل في أوّل انتخابات نيابية منذ عام 2009، وفق نظام التصويت النسبي، ولكن مع تثبيت الطائفية السياسية من خلال إضافة "الصوت التفضيلي" الذي يمنحه الناخب لمُرشّح من القضاء نفسه (تقسيم إداري صغير للمناطق يأتي بعد المحافظة)، علماً أن مُعظم الأقضية اللبنانية تتميّز بطابع طائفي واحد، ما يُحوّل الصوت التفضيلي إلى أداة تصويت طائفية.
وينصّ القانون الجديد للانتخابات على حصول اللوائح على عدد مقاعد مواز لعدد الحواصل الانتخابية التي ستؤمنها في كل دائرة، ويتم احتساب الحاصل عبر قسمة عدد المقاعد النيابية في الدائرة على عدد المقترعين. وبعد تحديد عدد المقاعد التي ستحصل عليها كل لائحة، بحسب عدد الحواصل، يتم اختيار المرشحين الفائزين استناداً إلى عدد الأصوات التفضيلية التي حصل عليها كل مُرشّح، مع مراعاة التوزيع الطائفي للمقاعد. ويبلغ عدد الناخبين في بيروت حوالي 484 ألف ناخب، موزعين بين 350 ألفاً في بيروت الثانية و134 ألفاً في بيروت الأولى. ويبلغ عدد المقاعد في الدائرة الأولى 8، وفي الثانية 11. وقد عبّرت "الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات" (لادي) في بيان عن قلقها من "وجود خلل جوهري في تكافؤ الفرص بين المرشحين لأسباب تعود إلى القانون الانتخابي نفسه بالإضافة إلى الممارسة الانتخابية".
وبحسب مديرية الشؤون السياسية في وزارة الداخلية اللبنانية، فإن دائرة بيروت الثانية (تتضمّن المناطق ذات الأغلبية المُسلمة)، سجّلت أعلى عدد للوائح المتنافسة في دائرة واحدة (9 لوائح)، بينما بلغ عدد اللوائح في دائرة بيروت الأولى 5 لوائح.
ويعود سبب تعدد اللوائح المُتنافسة إلى جُملة أسباب عامة تنطبق على مُختلف الدوائر، كاعتماد النظام النسبي، وكون هذه الانتخابات هي الأولى منذ عام 2009، إضافة إلى الأسباب الخاصة والمُرتبطة بالجو السياسي والتمثيلي لكل دائرة على حدة. تتميز بيروت مثلاً بإضافة ثقل سياسي معنوي إلى النائب المُنتخب في العاصمة، وهو ما يدفع رئيس الحكومة سعد الحريري (من مدينة صيدا) ليختار أن يكون نائباً عن بيروت وليس عن صيدا (جنوب).
التحالفات المؤقتة و"المصالحة المسيحية"
لن تنعكس مفاعيل المصالحة بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، التي مهّدت لانتخاب مؤسس التيار ميشال عون، رئيساً للجمهورية نهاية عام 2016، على نتائج انتخابات دائرة بيروت الأولى، بعد أن فرّقت الحسابات الانتخابية الطرفين. كما باعد التحالف الانتخابي المُستجد بين "الوطني الحر" و"تيار المستقبل" من المسافة بين "المُستقبل" وحلفاء الأمس في تحالف "14 آذار"، أي "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" والوزير ميشال فرعون.
يتنافس المرشحون في الدائرة الأولى على 8 مقاعد نيابية، موزّعة بين الطوائف المسيحية الشرقية والغربية (روم أرثوذكس، روم كاثوليك، موارنة، أرمن أرثوذكس، أرمن كاثوليك وأقليات). وتتوزع اللوائح بين لائحة تحالف "الوطني الحرّ" مع "المستقبل" وحزب "الطاشناق" الأرمني، في مواجهة لائحة تحالف "القوات" و"الكتائب" مع الوزير فرعون، إضافة إلى 3 لوائح للمجتمع المدني والأهالي.
وفي حين تذهب أصوات المُسلمين الذين يُمثّلهم "تيار المُستقبل" في الدائرة لصالح مُرشحي "الوطني الحر" و"الطاشناق"، يُرجّح أن تنحصر المعركة على المقعد الأرثوذكسي بين مرشح "القوات" عماد واكيم، ومرشح "الوطني الحر"، رئيس جمعية تجار بيروت، نقولا شماس، على أن تتوزّع باقي المقاعد بين التحالفين، مع ارتفاع حظوظ المُرشّح الماروني الموالي لـ"الوطني الحر" مسعود الأشقر (أحد رموز الحرب الأهلية في صفوف حزبي القوات والكتائب في حينها)، مقابل تراجع حظوظ نديم الجميل، نجل رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميّل. ويرجّح فوز تحالف "القوات" ـ "الكتائب" وفرعون بمقعدين، أرمني وكاثوليكي، على أن يحصد "حزب الطاشناق" ثلاثة مقاعد من أصل أربعة مقاعد أرمنية في الدائرة، بحسب ما تُشيع أوساطه.
"المستقبل" سيحصد تشتت أصوات معارضيه
أمّا في "بيروت الثانية"، فقد شجّعت سلسلة النكسات المالية والسياسية التي تعرّض لها رئيس الحكومة وتياره (المستقبل) منذ عام 2008 وحتى اليوم، بعض القوى السياسية السنيّة على استعادة نشاطها العام، بعد أن احتكر "تيار المستقبل" معظم التمثيل السني منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى تاريخ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005. وقد كشف تنوّع اللوائح شهيّة العائلات البيروتية والقوى السياسية والمدنية لمحاولة حصد عدد من المقاعد النيابية من أصل 11 مقعداً في الدائرة، موزّعة بين المذاهب والطوائف الإسلامية والمسيحية، بعد سنوات من تمثيل "تيار المستقبل" بشكل شبه منفرد لبيروت. وقد قرر "المستقبل" خوض الانتخابات في بيروت الثانية بالتحالف مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي يتزعمه النائب وليد جنبلاط، فقط، بعد أن كان تحالف مع "الجماعة الإسلامية" (الجناح اللبناني للإخوان المسلمين) في انتخابات عام 2009.
واليوم يستبدل التيار، الذي تقلّصت عناوين دعايته الانتخابية من "السماء الزرقاء" إلى "الخرزة الزرقاء" (تميمة الحسد)، العديد من نوابه الحاليين لصالح مُرشحين جُدد اختارهم من داخل جسده التنظيمي. وتضم لائحة "المستقبل لبيروت" 11 مرشحاً بينهم رئيسا حكومة، السابق تمام سلام، والحالي سعد الحريري، ووزير الداخلية نهاد المشنوق، وسيدة واحدة هي رلى جارودي.
وعلمت "العربي الجديد" من مصادر في ماكينة الحريري الانتخابية أن "التيار يُعوّل على بعض الخدمات البسيطة التي تم تقديمها لأبناء بيروت خلال الأشهر الماضية لتشجيع الناخبين على التصويت، بعد سنوات من انقطاع الخدمات التي تزامنت مع غياب الحريري عن البلد بعد إقالته من رئاسة الحكومة عام 2011". وتشمل قائمة الخدمات تعيين 400 عامل مياوم في هيئة "أوجيرو"، وهي اليد التنفيذية لوزارة الاتصالات التي يرأسها النائب في كتلة المستقبل جمال الجراح، وتعيين 18 مديرا عاما، وكذلك تعيين 125 متطوعا من أبناء بيروت في فوج الإطفاء".
كما علمت "العربي الجديد" أن العديد من أصحاب العقارات في بيروت رفضوا تأجير مكاتب ومحال تجارية لـ "المستقبل"، إلا بعد قبض بدلات الإيجار سلفاً، خوفاً من تكرار المشاكل المالية التي عانت منها، ولا تزال ماكينة المستقبل خلال الانتخابات البلدية عام 2016. ويحاول مسؤولو "المستقبل" في أحياء بيروت تأكيد انتهاء أزمة التخطيط والإدارة التي واكبت الانتخابات البلدية، وقدّمت صورة سيئة جداً، مع تهافت مندوبي الانتخابات البلدية إلى مراكز التيار للمطالبة بتقاضي مخصصاتهم المالية التي وُعدوا بها.
ولم ينس جمهور "تيار المستقبل" هذه الصورة بعد، إلا أنّ الخطاب الطائفي الذي يهاجم فيه مُرشحو التيار في بيروت خصومهم السياسيين والطائفيين، نجح في شدّ عصب أبناء بيروت مُجدداً خلف سعد الحريري. وسيستفيد "المستقبل" بشكل كبير جداً من حالة تشتت الأصوات بين ثماني لوائح مُنافسة له، لتتحوّل التعددية إلى سلاح بيد الأحزاب الكبرى في لبنان، رغم اعتماد النظام النسبي. ويعود السبب في ذلك إلى حاجة كل لائحة إلى حصد أكبر عدد ممكن من الحواصل الانتخابية (قسمة عدد المُنتخبين على عدد المقاعد النيابية في الدائرة)، ليحجز الحاصلون على أعلى عدد من الأصوات التفضيلية أحد المقاعد النيابية. هكذا يتوقّع مراقبون أن يحوز الحريري على أغلبية المقاعد في دائرته بسبب تشتت خصومه، رغم أنه يمرّ بمرحلة ضعف سياسي ومالي.
تنافس لائحة الحريري في بيروت الثانية مجموعة لوائح مدنية وسياسية وأهلية، توالى الإعلان عنها منذ بدء وزارة الداخلية استقبال طلبات الترشيح. ويحضر هنا وزير العدل السابق والمدير العام الأسبق للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، أشرف ريفي، عبر لائحة بعنوان "المعارضة البيروتية"، والتي تضم ثمانية مُرشّحين يتشاركون ظاهرياً مع الحريري في عنوان "معارضة حزب الله"، بينما يختلفون معه على طريقة إدارة الخلاف مع الحزب. وقد فشل ريفي في الانضمام إلى اللائحة الثالثة التي تُنافس في دائرة بيروت الثانية، وهي اللائحة التي شكّلها ناشر صحيفة اللواء البيروتية صلاح سلام، وتضم بالإضافة إليه ثمانية مرشحين آخرين، بينهم النائب الحالي عماد الحوت، وهو من "الجماعة الإسلامية"، والذي تم استبعاد فريقه من شبكة التحالفات الضيّقة التي نسجها "المستقبل" للانتخابات المُقبلة، والوزير السابق إبراهيم شمس الدين، نجل المرجع الشيعي الراحل محمد مهدي شمس الدين. كما تضم اللائحة أيضاً مالك نادي الأنصار البيروتي العريق لكرة القدم نبيل بدر، وهو الذي يُشكّل رافعة شعبية كبيرة لهذه اللائحة.
وتخوض قوى اليسار التقليدية اللبنانية المنافسة في بيروت الانتخابات من خلال لائحة "صوت الناس" التي تضمّ نجل الرئيس السابق لـ"حركة الشعب" (تنظيم ناصري) عمر واكيم، وناشطين يساريين من الحراك المدني، إلى جانب لائحتي "البيارتة المستقلين" و"كرامة بيروت" اللتين تضمان مرشحين من العائلات البيروتية. ويحضر في بيروت أيضاً رجل الأعمال الثري فؤاد مخزومي، الذي تُطرح الكثير من علامات الاستفهام حول مصدر ثروته، ومصير الإنفاق الإعلاني والإعلامي الكبير الذي بذله الرجل خلال الانتخابات. ويقود مخزومي لائحة "لبنان حرزان" التي تضم بالإضافة إليه، 9 مرشحين آخرين، بينهم مستشار محافظ بيروت وعضو مجلس بلدية بيروت السابق عصام برغوت. ويشارك في الانتخابات أيضاً أول الخاسرين في انتخابات بلدية بيروت عام 2016، المهندس ابراهيم منيمنة، الذي شكّل لائحة "كلنا بيروت" المؤلفة من 7 مُرشحين بينهم سيدتان.
ويحضر "حزب الله" و"حركة أمل" وحلفاؤهما في دائرة بيروت الثانية عبر لائحة "وحدة بيروت" التي تضم مرشحاً عن الحزب هو النائب السابق أمين شرّي، ومرشحاً عن الحركة هو محمد خواجة، مستشار رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلى جانب مُرشحين عن "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية" (المعروفة بالأحباش، وهي جمعية إسلامية سنية صوفية توالي النظام السوري)، و"جبهة العمل الإسلامي" (وهو تجمع علمائي سُني مؤيد لحزب الله وللنظام السوري). ومن المُتوقع أن ينجح طرفا "الثنائية الشيعية" (الحزب الحركة) في حصد المقعدين الشيعيين، وتجيير بعض الأصوات التفضيلية لصالح مُرشحين آخرين.