انساب صوتها شجياً حزيناً يصدح بكلمات أمير الزجل: "تشوفه يضحك وفي قلبه الأنين والنوح.. عايش بلا روح.. وحيد.. والحب هو الروح.. حبيب قلبي وقلبي معاه.. بحبه في رضاه وجفاه.. أورّيه الملام بالعين.. وقلبي على الرضا ناوي.. بيجرح قد ما يجرح.. ويعطف تاني ويداوي". حدث الأمر في مثل هذا اليوم من عام 1961.
مثلت كلمات بيرم التونسي نقطة تحول في مسيرة أم كلثوم، التي أصبحت -في نصوصها- تسير في طريقين، أو تطير بجناحين: جناح الرومانسية المفرطة، من خلال كلمات أحمد رامي، الذي كان يقدم تجربته الذاتية، ومعاناته الوجدانية المتمثلة في حبه المتوقد لـ سومة، وجناح الرفض العاطفي، من خلال كلمات بيرم، التي تتعامل بسخرية لا تخلو من استعلاء على معاني الهجر والضنا والوجد، حتى لو كان الكاتب يكابد الحرمان والأسى.
وبينما يسيطر الحبيب على عقل رامي وقلبه، وتفشل محاولات نسيانه: "بفكر فيك وأنا ناسي"، يتعامل بيرم مع هذه المشاعر كأنها واقعة على غيره لا عليه، مقرراً أن طبيعة الحب هي المراوحة بين المشاعر المتناقضة: "الحب كده.. وصال ودلال.. ورضا وخصام.. وأهو من ده وده.. الحب كده".
وفق موسوعة أعلام الموسيقى العربية، مثلت كلمات بيرم التونسي، نحو 12% من أعمال أم كلثوم، ليحل في المرتبة الثانية بعد أحمد رامي، الذي شكلت كلماته 46% من غناء سيدة الطرب. رامي يجنح إلى التعقيد؛ فيقول: "وازّاي أقولك كنا زمان والماضي كان في الغيب بكرة"، بينما يميل بيرم إلى الوصول من أقصر طريق؛ فيقول: "الأمل لولاه عليا كنت في حبك ضحية". رامي يعاني من المحبوب، فتكون النتيجة: "صبحت أحب الحب من بعد عشق الحبيب"، وبيرم يمل من انتظار محبوبه فيقول: "يا ريتني عمري ما حبيت".
قبل أن يلتقي بيرم بأم كلثوم، كان قد سطر صفحات كبيرة في سجل النضال والمعاناة، فبعد ثورة 1919 بعدة سنوات، وبسبب نقده اللاذع للملك فؤاد وأسرته، صدر القرار بنفي بيرم إلى الأراضي التونسية، ولا سيما بعد نشره قصيدة "البامية الملوكي والقرع السلطاني"، التي تعرض فيها للأسرة الملكية، ومقاله "لعنة الله على المحافظ" الذي هاجم فيه زوج الأميرة فوقية بنت الملك فؤاد، وكان وقتها محافظاً للقاهرة.
أراد بيرم أن يواصل مسيرته الصحافية في تونس، لكنه اكتشف أنه موضوع تحت مراقبة شديدة، بعد أن سبقه صيته في مصر، باعتباره محرّضاً على الثورة؛ فغادر تونس إلى باريس، التي أعجبه نشاط أهلها، لكنه فشل هناك في الحصول على عمل، فانتقل إلى ليون لتتفاقم معاناته إلى حد الجوع.
لم يستطع بيرم صبراً على المنفى والابتعاد عن مصر، فرتب أوراقه للعودة، وركب أول سفينة متجهة إلى بورسعيد، فوصلها في مارس/آذار 1922، وتوجه من فوره إلى الإسكندرية، متخفياً من السلطات، ونشر أزجاله من دون توقيع، وواصل هجومه وسخريته من القصر والاحتلال.
بعد 14 شهراً، ألقي القبض عليه ليرحل مرة أخرى على أول سفينة متجهة إلى فرنسا؛ حيث عمل شيالاً في ميناء مرسيليا، قبل أن ينتقل للعمل في مصنع كيماويات، ثم مصنع حرير، ما أثّر كثيراً على صحته، وهو المريض بالربو؛ فنقل إلى المستشفى، وطال غيابه عن العمل فصدر قرار بفصله. لكنه استمر في هجاء الأسرة الحاكمة.
دام النفي الثاني لبيرم 15 عاماً، بين عامي 1923 و1938، ذاق خلالها الشقاء والبؤس والجوع أضعافاً مضاعفة، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن الإنتاج الأدبي.
وبسبب قرارات فرنسية تخص الأجانب، تم ترحيل بيرم من فرنسا إلى تونس، ثم رحل من تونس إلى سورية، حيث أُلقي به في سفينة لنفيه إلى خارج سورية، فاستطاع الهرب أثناء توقف السفينة في بورسعيد، ليظل في معاناة مع الاختفاء والترقب، إلى أن استطاع أصدقاؤه استصدار قرار من وزارة الداخلية بعدم ملاحقته.
أكسبت سنوات النضال والمنفى بيرم شهرة كبيرة على شهرته التي حازها بسبب إنتاجه المتميز في التأليف المسرحي، لذا لم يمض عامان على عودة بيرم من فرنسا حتى فوجئ بطلب من أم كلثوم للقائه والتعرف إليه، عبر صديقهما المشترك شيخ الملحنين زكريا أحمد.
كان لقاء بيرم التونسي وأم كلثوم نقطة تحول كبرى في حياة الشاعر الكبير، فقد كوّن مع كوكب الشرق وزكريا أحمد ثلاثياً حقّق نجاحاً ساحقاً، وأصبحت مصر كلها تتغنى بكلمات بيرم، في أغنيات باتت علامات مهمّة في مسيرة الطرب العربي: "الأولة في الغرام"، و"أنا في انتظارك"، و"حبيبي يسعد أوقاته"، و"حلم"، و"الأمل"، و"غني لي شوي شوي"، و"الورد جميل".
وبينما هيمن رياض السنباطي على تلحين أغلب نصوص رامي، كان الشيخ زكريا أحمد صاحب النصيب الأكبر في تلحين نصوص بيرم التونسي. وبغض النظر عن عمق العلاقة ومتانة الصداقة بين بيرم وزكريا، فالمؤكد أن طريقة شيخ الملحنين وأسلوبه التلحيني المتفجر بخفة الروح والسخرية كانت الأنسب إلى ما يسطره بيرم من كلمات.
كانت أعمال الرجلين بصوت أم كلثوم هي الأقرب إلى الطبقات الشعبية والبسطاء؛ فكلمات بيرم تتسم بالسهولة والوضوح، ولا تحتاج إلى ما تحتاجه كلمات رامي من تفكير، وكذلك كانت ألحان الشيخ زكريا، شديدة الوضوح، مقامياً وإيقاعياً، تمتلئ بذلك "التقطيع" الذي يحبه جمهور "السلطنة".
ورغم الخلاف الذي دب بين أم كلثوم والشيخ زكريا، إلا أن التعاون استمر بينها وبين بيرم، فأنشدت من كلماته بألحان السنباطي إحدى قصائد الذرى العالية: "شمس الأصيل"، كما غنت له "الحب كده". وبعد مصالحة السيدة مع زكريا أحمد، عاد الملحن الكبير مرة أخرى بكلمات بيرم الخالدة: "هو صحيح الهوى غلاب". وكان ختام ما غنت له، زجليته الصوفية الرقيقة، "القلب يعشق كل جميل".
ورغم الروح الواحدة التي تجمع كلمات بيرم، إلا أن الرجل كان من أكثر المجددين في الأساليب الزجلية، وحرص على التنوع الشديد في التشطير والقوافي، ومن ذراه التي لا تنسى نذكر طريقته الفذة الفريدة في "الأولة في الغرام"، حيث يبدأ "الأولة والثانية والثالثة" على قافية، ثم يكرر الأبيات الثلاثة مضيفاً لكل منها جملة جديدة تكمل المعنى، ثم يكرر الأبيات والقافية الثانية مضيفاً ثلاث جمل بثلاث قوافٍ جديدة تُتمّم المعنى، لتأتي بنية النص كالآتي:
"الأولة في الغرام والحب شبكوني/ والتانية بالامتثال والحب أمروني/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني/ الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين/ والتانية بالامتثال والحب أمروني وأجيبه منين/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني قلولوا لي فين/ الأولة في الغرام والحب شبكوني بنظرة عين قادت لهيبي/ والتانية بالامتثال والحب أمروني وأجيبه منين احتار طبيبي/ والتالتة من غير معاد راحوا وفاتوني قلولوا لي فين سافر حبيبي".
أما تحفته الوصفية العاطفية "شمس الأصيل"، والتي كانت من نصيب رياض السنباطي تلحيناً، فيقول عنها الباحث والناقد الموسيقي فيكتور سحاب: "ثمة إجماع على أن هذه الأغنية هي أشد الأغنيات التصاقاً بروح مصر، وتعبيراً عن نيلها وطبيعتها وريفها".
عاش بيرم التونسي يحمل كثيراً من الألم لكونه لا يحمل الجنسية المصرية، إلى أن قامت ثورة يوليو وأطاحت النظام الملكي، وحققت للشاعر الكبير أمنيته بمنحه الجنسية المصرية تقديراً لمواقفه الوطنية ورحلة نضاله الكبيرة. وتقديراً لجهوده في الارتقاء بالكلمة، منحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية عام 1960، لكن بعد هذا التكريم بعدة أشهر رحل بيرم التونسي في 5 يناير 1961، ففقدت العامية المصرية أكبر أركانها، وفقدت أم كلثوم ركناً من أركان مملكتها.