بيدرو والنقيب (2)

10 سبتمبر 2015
مشهد من أحد عروض المسرحية (تصوير: دانييل غارّيدو)
+ الخط -

[الفصل الثاني]

خشبة المسرح نفسها، هذه المرة خالية.

بعد مرور بضع دقائق، يُقذفُ بيدرو (الذي لا يزال مربوطاً ورأسه مغطى بالقلنسوة) من جديد إلى خشبة المسرح كما حدث في المشهد السابق، لكن بطريقة أعنف هذه المرة. حالته متدهورة الآن، من الواضح أن العقاب الذي تعرض له كان قاسياً. يبحث بيدرو متلمساً عن الكرسي، يجده في الأخير ويجلس بصعوبة. يخرج من فمه من حين إلى آخر صوت خشن بالكاد يسمع.

يدخل النقيب بالهيئة واللباس نفسهما مثل المشهد السابق. يراقبُ بيدرو بتمعن، كما لو كان يقوم بجرد للكدمات والجروح الجديدة.

النقيب: (ما يزال واقفاً؛ رجلاه منفرجان ويداه مضمومتان) أترى؟ لقد بدأ ارتفاع وتيرة التعذيب. لن تستطيع القول إنني لم أحذرك. أترى، إنهم وحوش هؤلاء التابعون. ويجب تركهم للقيام بعملهم. بخلاف هذا يمكنهم أن يكسروا عظامنا نحن. (فترة صمت)

أصدّقت ما قلت؟ لا، أنا أمزح. لكن الحقيقة هي أن هناك أكثر من ضابط واحد يخاف منهم.  (فترة صمت) وكيف الحال؟ أعطيتك وقتاً للتفكير، أفكّرت؟  (بيدرو يصمت ولا يتحرّك) أحذّرك من شيء، لا تظن أننا سنستمر نصف سنة على هذه الحال... لنقل المتعثرة.

من جهة، لا أظن أن جسمك يمكنه التحمل لفترة طويلة؛ فأنت لست رياضياً، وأنا لا أقصد أسئلتي، وإنما الصبية الكهربائيون. (مغيّراً نبرة صوته) بالمناسبة، دعابتي أضحكت العقيد كثيراً، فهو لم يكتف بالضحك، وإنما قال لي: "أيها النقيب، علينا أن نحرص على وجود أكثر من انقطاع كهربائي واحد". النكتة لم تكن جيدة، لكنني ضحكت. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ (عائداً إلى الموضوع) ماذا كنت أقول لك؟ آه نعم، إننا في وضعية متعثرة. أنا شخصياً أريد الخروج من هذه الوضعية. أتصور أنك تريد أيضاً؛ لهذا أنا قررت إدخال عنصر جديد للقضية. (فترة صمت) ألا يثيرك الفضول؟ ما هو هذا العنصر؟ شاهد؟ شخص وشى بك؟ (فترة صمت جديدة مخصصة لخلق التوقع) لا، لا شيء من هذا القبيل. العنصر الجديد سيكون عينيك، أريدك أن ترى وأن أستطيع رؤيتك كيف ترى. (يقترب من بيدرو ويسحب عن رأسه القلنسوة دفعة واحدة.

وجه بيدرو مليء بالجروح وآثار الضرب (يفتح ويغلق عدة مرات عيناه البراقتين) حسناً، حسناً. (يبتسم) إنه لشرف عظيم. من الأفضل أن نرى وجهينا، أليس كذلك؟ لم أحبذ التحاور مع خيش قط، هناك بعض الزملاء لا يريدون أن يراهم المعتقل وعندهم حق في بعض ما يقولون، فالعقاب يولد الضغائن، والواحد منا لا يعرف ما يمكن أن يجلب لنا المستقبل قط.

من يقول لك إن هذا الوضع يوماً ما يمكن أن يعكس وتكون أنت من يحقق معي؟ إذا حصل هذا أعدك أنني سأتعاون أكثر منك. لكن هذا لن يحصل، لا تتوهم. لقد اتخذنا كل الاحتياطات  لكي لا يحصل. من جهة أخرى، أنا لا يقلقني أن تتعرف على وجهي، فأكثر تهمة يمكنك أن تلصقها بي هي أنني كنت أسأل وأسأل، وأظن أن هذا الشيء لا يولّد الضغائن، أم يولّد؟ (فترة صمت) هكذا بدون قلنسوة، يصعب عليك قليلاً التحدث أليس كذلك؟

بيدرو: نعم

النقيب: عجباً! هذه أول كلمة تتفوه بها، إنه لتنازل عظيم. أحسنت!

بيدرو: (يجد بعض الصعوبة في الكلام بسبب تورم الفم) أريد أن أوضّح لك أن عدم مشاركتك المباشرة في تعذيبي، لا يضمن ألا أمقتك أو أن أكرهك بدرجة أقل.

النقيب: (يتفاجأ بعض الشيء، لكنه يرد) هذا جيد. يعجبني اللعب النظيف.

بيدرو:  لا، لا يعجبك. لكن هذا لا يهم. أريد أن أقول لك علاوة على ذلك أنه بينما كان رأسي مغطى بالقلنسوة، لم أنبس ببنت شفة؛ لأن هناك حدّاً أدنى من الكرامة، لست مستعدّاً للتنازل عنه والقلنسوة شيء مخزٍ. 

النقيب: (بعد فترة صمت) ما ذكرته عن الكراهية، لماذا قلته؟

بيدرو: لماذا قلته؟

النقيب: نعم، أستطيع تفهّم أنك تحس بها. بالمقابل، لا يمكنني تفهّم أن تقولها لي هكذا بوقاحة، ذلك أنني هنا في الأعلى، وأنت في الأسفل. أم نسيت هذا؟ 

بيدرو: لا، لم أنس.

النقيب: وإظهار الكراهية يولّد الكراهية.

بيدرو: طبعاً.

النقيب: أحذّرك من أنني لن أدخل في تلك اللعبة. أنا مسيحي، لكنني لم أتعود إعطاء الخد الثاني.

بيدرو: بالطبع، فأنا من يعطي خديه، انظر حالها. الخدان والظهر والرجلان والأظافر.

النقيب: وغداً الخصيتان.

بيدرو: إن قلت هذا أنت فهو ممكن.

النقيب: أنا أقوله وأأمر به، وآخرون ينفدونه. ما رأيك؟ (إيماءة من بيدرو. النقيب يطلق ابتسامة عصبية) على أي حال، أنصحك ألا تستفزني، فأنا سريع الغضب. أتعرف هذا؟

بيدرو: أعرف. ربما أنا أعرف أكثر عنك مما تعرف أنت عني.

النقيب: (باستهزاء) حقاً! هذا غير معقول. لا تقل هذا يا رجل.

بيدرو: نعم أقوله لك. ففي سعيك إلى استخلاص ما أعرفه أنا، وما لا تعرف أنت، لا تنتبه إلى أنك تتعرّى أمامي، وتظهر ما أنت عليه حقاً.

النقيب: وكيف أنا؟

بيدرو: أف...

النقيب: أظن أنني سألتك كيف أنا.

بيدرو: نعم أعرف، لكنه سؤال سخيف. ترميني في غياهب السجون وتتركهم يهشمون عظامي وبعدها تريد مني أن أحلل شخصيتك. هذا لا!

النقيب: بعد كل هذا، أنا أتصور نفسي كيف أنا.

بيدرو: إذاً أنا متفق مع هذا التشخيص الذاتي.

النقيب: وإذا كنت أتصور نفسي نبيلاً وشريفاً.

بيدرو: أتعرف؟ أنت لا تستطيع أن توهم نفسك. (فترة صمت وجيزة) أنت لا يمكنك تخيل نفسك على أنك نبيل وشريف.

النقيب: (صارخاً) اخرس!

بيدرو: كيف؟ ألم تكن تريد أن أتكلم؟ والآن بعد أن قررت الكلام...

النقيب: (بصوت منخفض لكن بتركيز) اخرس أيها الغبي.

بيدرو: حسناً، هذا جيد.

النقيب: (بعد فترة، بهدوء أكثر كما لو كان يفكر) المهم... لعلي لا أعتبر نفسي نبيلاً وشريفاً. لكن من يهتم لنبلي ولشرفي؟ هيا! قل لي من؟

بيدرو: يجب أن يهمك أنت. أما عني...

النقيب: هذا أيضاً في قائمة التعليمات؟ تحديد مسافة صحية مع المحقق؟

بيدرو: أنت من يحدّد المسافة. كيف يمكن وجود تواصل وتقارب وحوار إلخ.. بين معذب وشخص يتعرض إلى التعذيب؟

النقيب: (بجزع) أنا لم ألمسك بالكاد.

بيدرو: نعم أعرف، فأنت "الطيب". لكن هل يوجد في هذا المكان "طيبون وسيئون"؟ ألست مثل الفيل الذي يضع رأسي في براميل الماء، ومثل الوحش الذي يخضعني لآلة التعذيب المسماة المنخس؟ مجموعة الأشخاص نفسها والآلة نفسها؟ أيمكنك أنت نفسك تصديق وجود فرق؟

النقيب: أنت تبالغ في وقاحتك.

بيدرو: إذاً سأعود لأغلق فمي.

النقيب: (بعد لحظة صمت) ألا تريد أن تسألني شيئاً؟

بيدرو: (مستغرباً) أسأل أنا؟

النقيب: نعم، اسأل أنت.

بيدرو: ما الأمر؟ أهي تقنية جديدة ما بعد الضابط ميتريوني؟

النقيب: ربما.

بيدرو: (وهو يفكر) حسناً، سأسألك: ألديك عائلة؟

النقيب: (مستغرباً من جانبه) وفيما يهمك أنت هذا؟

بيدرو: هذا لا يهمني في شيء. من عليه أن يهتم إذا كانت له عائلة هو أنت.

النقيب: أهذا تهديد؟

بيدرو: هذا يسمى تشويهاً مهنياً! فأنتم عندما تذكرون عائلة شخص ما، دائماً ما يكون للتهديد.

النقيب: إذاً. لماذا تريد أن تعرف؟

بيدرو: لأنه إن كان لك أبوان وزوجة وأولاد، فلا بد أن يكون هذا الأمر صعباً عليك عندما تعود إلى البيت.

النقيب: (صارخاً) بالله عليك، ماذا تقول؟

بيدرو: أنا أقصد؛ من الصعب عليك بعد استنطاق شخص تعرض إلى التعذيب حديثاً، تقبيل زوجتك أو ابنك، إن كان لك ابن.

ينهض النقيب فجأة، بعد أن خرج عن طوره،  ويسدد لكمة إلى فم بيدرو.

بيدرو: (يحاول تحريك شفتيه ويتكلم بصعوبة أكثر من السابق) الحمد لله أنك أنت الطيب.

النقيب: كل شيء له حد.

بيدرو: أيها النقيب أنت ذاهب إلى هلاكك. لا تنس أن "الطيب" لا يمكنه ولا يجب عليه أن يسدد الضربات لرجل مربوط. (فترة صمت) على أي حال، أخبرك أنك لا تستطيع المنافسة مع زملائك الذين يعملون ليلاً. فهم يقومون بهذا العمل بطريقة أفضل. وهذا منطقي، فما يقومون به هم كهربائياً، أنت تقوم به يدوياً. ولا يمكن المنافسة بهذه الطريقة.

النقيب: لقد قلت كفى.

بيدرو: ألن يتشاجروا معك حينما يعرفون أنك فقدت هدوءك؟ لقد خرقت القواعد أيها النقيب.

النقيب: (مغمغماً) اخرس أيها التافه.

بيدرو: لم يعجبك الحديث عن العائلة، أليس كذلك؟ أولا: تريد أن تقول إن لك عائلة. وثانياً: إنك لست عديم الإحساس جداً.

النقيب: (أكثر هدوءاً) إذاً ستتكلم؟

بيدرو: أنا أتكلم ألا ترى؟

النقيب: أنت تعرف ماذا أقصد.

بيدرو: أيها النقيب، لا تستخلص استنتاجات منافية للعقل.

النقيب: (مرتبكاً) لكن لماذا؟ لماذا؟ (إيماءة من بيدرو) ألم تنتبه أيها الأبله أنهم يستغلونك؟ ألم تنتبه أن آخرين يقدمون الأفكار وأنت تقدم وجهك؟ 

بيدرو: جملة جيدة. من أين حصلت عليها؟ (فترة صمت) أحياناً قد تكون صحيحة أيضاً.

النقيب: إذاً؟

بيدرو: لا شيء. الأساسي ليس العيب الفردي...

النقيب: (متمماً الجملة) وإنما الإرادة الجماعية. الفقرة السابعة الملحوظة (أ) من الإعلان الداخلي الذي ناقشتم في شهر آب.

بيدرو: إذا كنتم تعرفون إعلان آب، فلماذا كل هذه المهزلة؟

النقيب: الإعلان شيء وأنت شيء آخر.

بيدرو: بمعنى يوجد بيننا مخبر.

النقيب: ولمَ لا؟ ماذا كنت تنتظر؟

بيدرو: وكيف لم يخبركم بكل شيء عن غابرييل وروساريو وماغدالينا وفيرمين؟

النقيب: لأنه لا يعرف.

بيدرو: آه.

النقيب: بالمقابل نعم، كان يعرف عنك معلومات ولهذا قبض عليك. كما أنه أخبرنا أنك تعرف الأربعة الآخرين.

بيدرو: آه.

النقيب: (بعد صمت طويل) قل لي من فضلك، أنت تعرف ما الذي ينتظرك؟

بيدرو: أتخيله.

النقيب: ربما سيكون أسوء بكثير من السوء الذي تتخيله. نحن نحرز تقدُّماً كل يوم.

بيدرو: ما أتخيله دائماً هو الأسوء.

النقيب: لكن بالله عليك، أأنت انتحاري؟

بيدرو: لا شيء من هذا القبيل. أحب الحياة كثيراً.

النقيب: تحب الحياة محطماً؟

بيدرو: لا، أحب أن أحيا ببساطة.

النقيب: أنا أمنحك الحياة، ببساطة.

بيدرو: لا، ببساطة لا. أنت تمنحني الحياة كميت. وأنا أفضل الموت حيّاً على مثل هذه الحياة.

النقيب: أف، إنها مجرد جمل.

بيدرو: لقد قلتها عن قصد. كنت أظن أنها ستعجبك. أنتم عندما تلقون خطاباً تؤكدون دائماً على بعض الجمل والكلمات.

النقيب: (بعد فترة صمت) سألتني سابقاً عن العائلة. نعم أنا متزوج ولدي ولدان. الذكر يبلغ من العمر سبع سنوات والأنثى خمس. صحيح أن في بعض الأحيان عندما أصل البيت بعد إنهاء العمل يصعب علي مواجهتهما. أنا هنا لا أعذب ولكنني أسمع الكثير من الآهات والصرخات المؤثرة وزعقات اليأس. أحياناً أصل إلى البيت وأعصابي منهارة. يداي ترتعشان أنا لا أصلح كثيراً لهذا العمل، لكنني غارق في الديون. ولهذا أجد مبرّراً واحداً للعمل الذي أقوم به: جعل المعتقل يتكلم، وأن يزودنا بالمعلومات التي نريدها.

من الواضح أنني دائماً أفضّل أن يتكلم قبل أن يلمسه أي أحد، لكن هذا النموذج لم يعد موجوداً، لا يأتي. في المرّات التي نحصل فيها على شيء، يكون دائماً بفضل الآلة. من المنطقي أن الواحد يتعذب عندما يرى التعذيب. أنت قلت إنني لست عديم الإحساس وهذا صحيح.

إذاً انظر، الطريقة الوحيدة لأتبرّأ من المسؤولية أمام أطفالي، هي أن أكون واعياً بأنني على الأقل أنال الهدف الذي حدّدوه لي: وهو الحصول على معلومات، ولو اضطررنا إلى القضاء عليكم. إنها مسألة حياة أو موت؛ إما أن نقضي عليكم وإما أن تقضوا علينا. إنها مسألة حياة أو موت. أنت وضعت أصبعك على الجرح عندما ذكرت عائلتي. لكنك أيضاً جعلتني أتذكر أنه علي أن أجعلك تتكلم بأي طريقة كانت. هكذا فقط سأحس براحة أمام زوجتي وولدَيّ، سأحس براحة فقط إن أديت واجبي وإن بلغت مرادي. لأنني خلاف هذا، سأكون حقّاً قاسياً وسادياً وعديم الإنسانية؛ لأنني سأكون اضطررت إلى أن آمُرَ بتعذيبك هباءً، وهذه نعم قذارة لا أطيقها.   

بيدرو: (ينظر إليه بنوع من الفضول، بفضول يبدو علمياً، كالذي يفحص فصيلة منقرضة) أهناك شيء آخر؟

النقيب: نعم، عندي سؤال. هو السؤال نفسه الذي طرحته عليك سابقاً، لكنني أتطلع إلى أن تفهمه أحسن هذه المرة، وأثق أنك تعلم كل ما أعلقه عليه، ستتكلم؟

بيدرو: (ما زال مندهشاً أمام الخطبة المسهبة والثقيلة للنقيب، لكن من دون أن يفقد شيئاً من قوته) لا أيها النقيب.


* ترجمة عن الإسبانية إبراهيم اليعيشي

دلالات
المساهمون