بطّانيات الثورة

25 يناير 2015
شارع قصر العيني، 29 يناير 2011 (العربي الجديد)
+ الخط -

وصلتُ القاهرة يوم 23 يناير 2011 لدراسة الموسيقى، وصادف وجودي فيها اندلاع الشرارة الأولى للثورة المصرية، في 25 يناير، والتي سبقها نشاط ملحوظ على شبكة الإنترنت للناشطين ضد نظام حكم مبارك، كما صادف أيضاً أن تكون إقامتي في شارع قصر العيني على مقربة من ميدان التحرير.

في ليلة 25 يناير، كان من الواضح أن هذا التجمّع ليس مجرد مظاهرة عابرة ستنتهي بفضها والسلام، وأدركت حينها بأن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة جديدة انطلقت من الفضاء الإلكتروني بعد أن ضاقت بها الأرض. أيام بأعصاب مشدودة أنفقتها في متابعة مشاهد دراماتيكية وكيف تحول النظام البوليسي إلى ثيران هوجاء، أربكها مصارعون جدد، مدججين بكاميراتهم وحواسيبهم.

كفلسطيني معتاد على التشاؤم وقادم من بلاد منكوبة باحتلال وبسُلطة فاشلة، كانت الثورة المصرية مبعث أمل حقيقي لعصر جديد، يستعيد فيه الإنسان العربي كرامته وعزته، واعتبرت نفسي محظوظاً بكوني أقفُ شاهداً على حدث تاريخي غير بسيط. وطوال أيام اعتصام شباب الثورة في التحرير، لازمني شعور كبير بالخجل، بسبب عجزي عن تقديم شيء. لكنني استطعت مرة أن أُحَضِّرَ قِدراً كبيراً من "الرز بحليب" ـ طبق الحلو الرائج في بلاد الشام ـ قائلاً في نفسي، لم لا؟ طبق لذيذ وسهل التحضير، ومصدر جيد للطاقة في هذا البرد.

وزَّعت الكمية على كؤوس بلاستيك شاءت الصدف السعيدة أن تتوفر وقتها. وضعت الكؤوس في كرتونة طماطم فارغة، وانطلقت بها إلى ميدان التحرير. لم أتمكن يومها من دخول الميدان، بل وجدت نفسي وقد أفرغت حمولتي على أطرافه. كانت ساعة متأخرة بعد منتصف الليل والبرد شديداً؛ ما دفعني لعرض تقديم بعض البطانيات المتوفرة لديّ. وبالفعل، ذهبت إلى المنزل وعدت بثلاث بطانيات من أصل خمس، كانت متواجدة في الشقة التي استأجرتها.

بعد سقوط نظام مبارك تحول شارع قصر العيني إلى مركز اعتصامات دائمة، ما أدى إلى تضييق حرية الحركة من وإلى الشارع، الأمر الذي دفعني للانتقال إلى شقة أخرى في شارع عماد الدين في وسط البلد. عند تسليم الشقة جاءني المالك ليتفقدها قبل أن أرحل منها، وكان من السهل عليه أن يكتشف البطانيات المفقودة. سألني يومها عن البطانيات، وكنت متحمساً حين أجبته، ببشاشة، أنني أعطيتها لثوار "التحرير". أدركت سريعاً من تعابير وجهه بأنني قمت بفعل شنيع، حيث بدأ بكيل الشتائم للثوار وللثورة وساعة الثورة، وانتهى بمطالبتي بضعف ثمن البطانيات المفقودة.

بعد انتهاء إقامتي في مصر التي قاربت العام ومغادرتي لها، ظل وجه صاحب الشقة إياه يطاردني لفترة طويلة، وما زال يطل عليّ بوجهه المنتفخ القبيح، مع كل خبر يأتي من القاهرة؛ لدرجة أنه بات يخيّل لي أنه المسؤول الأول عن الثورة المضادة وعن عودة النظام البوليسي، وعن إسقاط التهم عن مبارك وأولاده، وعن البرد الذي يفتك بقاهرة المعز التي تبكي أطلالها، دون بطانية واحدة تقيها هذا الزمهرير.


* موسيقي وكاتب من فلسطين 

المساهمون