عزمي بشارة: "صفقة القرن" تتبنى السردية الصهيونية وتتجاهل معاناة الفلسطينيين
واستهل بشارة محاضرته التي قدمها خلال ندوة "صفقة ترامب-نتنياهو: خطة اليمين الأميركي-الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية في سياق تاريخي"، التي عقدها المركز العربي في مقره بالدوحة مساء أمس الإثنين، بالتأريخ للمبادرات الأميركية للسلام من فترة ما بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، وصولًا إلى نهاية حكم الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما.
وتطرّق إلى مبادرة وليام روجرز، وزير الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، لسنة 1970، والتي تعدّ الأولى بعد الحرب، ومشروع زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، سنة 1977، وصولًا إلى اتفاقات كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري، محمد أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغن، في 17 سبتمبر/ أيلول 1978.
كما تطرّق بشارة إلى المبادرات الأميركية التي أعقبت حرب لبنان، منها مشروع رونالد ريغان "مبادرة سلام أميركية لشعوب الشرق الأوسط لسنة 1982"، وتلك التي جاءت بعد غزو الكويت، كإعلان الرئيس جورج بوش (الأب) رؤيته، في خطاب ألقاه أمام الكونغرس في 6 مارس/ آذار 1991، بالقول إنّه "لا بد أن يقوم السلام على قاعدة قرارَي مجلس الأمن رقم 242 و338 ومبدأ الأرض في مقابل السلام"، ولكن من دون مقترحات للحل. ثمّ خريطة الطريق في عهد الرئيس الأميركي، جورج بوش (الابن)، 2002-2003، وصولًا إلى مسار السلام في عهد أوباما، ومحاولات وزير خارجيته جون كيري، الذي تسلّم الملف، لإعادة إطلاق عملية السلام.
وأوضح بشارة، في بحثه ضمن هذا السياق التاريخي، أن من كان يقبل بالمبادرات هو العرب عموما، ومن كان يرفضها هو إسرائيل، وذلك خلافًا لما تروجه بعض الأنظمة العربية حاليًا.
وفي سياق تحليله لـ"رؤية ترامب للسلام"، فقد سجّل بشارة مجموعة من الملاحظات النقدية، منها أن هذه الرؤية تعمل على تقويض أسس القانون الدولي وتغليب منطق القوّة، وهي سمة رئيسة غالبة على سياسة الرئيس دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، وفي مناطق عديدة في العالم.
وتتميز صياغة الرؤية بنبرة استعمارية وصائية، وقد عزّز بشارة هذه الملاحظة باقتباسات من الوثيقة.
وفي معرض تحليل للخطة، أوضح بشارة أنها تتبنّى الرؤية السرديةَ الإسرائيلية حرفيًّا، بما في ذلك الرواية التوراتية وكأنها قانون دولي ووثيقة سياسية معاصرة وصك ملكية؛ كل هذا من دون التطرّق بكلمة واحدة إلى الرواية الفلسطينية، والإشارة تكون دائمًا إلى معاناة الإسرائيليين. كما تسرد الرؤية الادعاءات الإسرائيلية لانسحابها من أراضٍ وتنازلاتها، من دون أي ذكر للرواية الفلسطينية، ولا حتى الإشارة إلى كلمة النكبة ولا معاناة الفلسطينيين بسبب الاحتلال. ولا تُذكر معاناة الفلسطينيين، بحسب بشارة، إلا بالإشارة إلى أنها ناجمة عن سلوك القيادة الفلسطينية وفسادها، أو "إرهاب" الفلسطينيين، ولا توجد معاناة فلسطينية بسبب إسرائيل أو الاحتلال.
وتطرق بشارة إلى عدم ذِكر كلمة "Occupation" بمعنى احتلال وتفرعاتها على طول الوثيقة، واستبدالها بكلمات مثل "الانسحاب"، والحالات التي وردت فيها كلمة احتلال "Occupation" جاءت بمعنى "مهنة".
طغيان لغة المستثمرين العقاريين
واعتبر الدكتور بشارة أنّ لغة الرؤية هي لغة مطوّرين عقاريين؛ وذلك بالحديث مثلًا عن أن دعم الاستثمارات بهدف بناء فنادق ومطاعم ومسابح وأماكن السياحة، وتمويل إضافي لتحسين التدريب في مجال الضيافة وتمويل حملات دعائية لتنشيط السياحة؛ قائلا "فكأن فلسطين قطعة أرض يتم منحها للشركات والمنظمات لتطويرها". وأشار إلى أنّ هذا يُشابه الخطاب الأميركي للسكان الأصليين في أميركا الشمالية وبتطوير "محميات" مسيّجة ألصقت بها كلمة "مستقلة".
واعتبر بشارة أنّ الخطوات الأولى السابقة لصفقة ترامب-نتنياهو هي تطبيقها على أرض الواقع، بدءًا من قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، ثمّ قرارات تنزع الطابع غير القانوني عن المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة بتصريح مباشر من وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ووقف التمويل عن وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" (31 آب/ أغسطس
2018)، وغلق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن بعد توقيف التمويل للوكالة بأسبوعين. مشيرا إلى أنّ "صفقة القرن" تشكّل قطيعة مع المبادرات الأميركية السابقة، وتعدّ بمنزلة كسر (قطيعة) للمنظور الأميركي التقليدي المتحالف أصلًا مع إسرائيل؛ وذلك بالانتقال إلى تبني موقف اليمين الإسرائيلي والتماهي معه.
وقد رسم المفكر العربي بشارة خريطة لعرابي خطّة السلام الأميركية، والذين يُعتبرون في نظره "عرّابي رؤية ترامب للسلام"، وهم جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي، وديفيد فريدمان السفير الأميركي لدى إسرائيل منذ عام 2017 ومحامي ترامب سابقًا في قضايا الإفلاس، والمحامي الأميركي جيسون غرينبلات كبير الموظفين القانونيين لدونالد ترامب وشركاته سابقًا، الذي عينه مساعدًا له والممثل الخاص للمفاوضات الدولية، وقد تسلّم مكانه بعد استقالته المحامي آفي بيركوفيتش، والذي يُظهِر سجله أنه فقط صديق شخصي لجاريد كوشنر ومساعده.
جملة من المغالطات
ويذهب بشارة إلى أن الوثيقة حملت مجموعة من المغالطات، أهمّها الادعاء أنّ إسرائيل انسحبت من 88 في المائة على الأقل من الأراضي التي استولت عليها في عام 1967؛ ويُظهِر هذا انتقائية في الحديث عن العرب والفلسطينيين. وقال في هذا الإطار "عند الحديث عن عام 1967، يُصبح الحديث فجأة يضم جميع العرب كأنهم طرف واحد موحد، ويتهيأ للقارئ أن إسرائيل أعادت 88 في المائة من أراضي فلسطين. ولكن الحديث هنا عن سيناء، وأما ما تبقى من الأراضي التي تبلغ نسبتها 12 في المائة فهي تضم الجولان وغزة والضفة الغربية". وتابع قائلا "يضاف إلى ما سبق اعتبار اليهود من الدول العربية لاجئين، لكن الحقيقة أن إسرائيل لا تعتبرهم لاجئين بل تعدّهم "قادمين جُددًا" وهم أساس بناء دولتها". وأشار إلى أن "الرؤية" تتحدث كيف أن إسرائيل خسرت أموالًا بدفعها "تعويضات" عند استيعاب اللاجئين اليهود من الدول العربية، وأنه يجب تعويض إسرائيل عن تلك الخسائر.
وأضاف بشارة إلى المغالطات، التي حملتها رؤية ترامب، كمثال الادعاء بأن الدولة الفلسطينية ستتمكن من استخدام ميناءي حيفا وأسدود وتصوير ذلك بأنه تنازل، في الوقت الذي يعدّ هذا الأمر قائما حاليا. وأشار إلى مغالطة أخرى تتعلق بمسألة الانسحاب من "أراضٍ" في قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967؛ إذ يرى بشارة أنّ التفسير الإسرائيلي لقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي دعا إلى "انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير" ونصّت صياغة النسخة الإنكليزية على الانسحاب من "Territories Occupied in the Recent Conflict"، فسرتها إسرائيل بأنها لا تعني الانسحاب من كل الأراضي، لكن هذه العبارة في الحقيقة هي تمييز عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في نزاعات سابقة أخرى؛ والمعنى هو بالتأكيد كل الأراضي التي احتلت عام 1967. واعتبر أن كل هذا لتبرير أنه حتى مع الأراضي التي سوف تمنح للفلسطينيين في الصحراء لن تصل إلى مائة في المائة من مساحة أراضي الضفة وقطاع غزة.
الحل في إنشاء حركة تحرر وطني فلسطيني بأفق جديد
ويرى بشارة أنه يجري من خلال تبادل الأرض دس هدف آخر، وهو التخلّص من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر؛ قائلا إن "الأراضي التي ستنسحب منها إسرائيل هي مناطق النقب غير المأهولة على حدود سيناء وتنفيذ مقترح إسرائيلي بضم المثلث إلى الكيان الفلسطيني، لكن نجد أن هدنة عام 1949 قد نصت على ضمها للأردن، إلا أن إسرائيل لم تلتزم بذلك واحتفظت بها ضمن الأراضي التي احتلّتها". وخلص إلى أن هذا "في الحقيقة ترانسفير وتطهير عرقي في لبوس رؤية للسلام".
أما بالنسبة إلى حق العودة للاجئين الفلسطينيين، فقد اقتبس بشارة من وثيقة "رؤية ترامب للسلام" التي أكدت على ضرورة أن "ينص اتفاق السلام الإسرائيلي الفلسطيني على إنهاء والتحرر من جميع المطالبات المتعلقة بوضعية اللاجئ أو الهجرة. لن يكون هناك أي حق في العودة أو استيعاب لأي لاجئ فلسطيني في دولة إسرائيل".
ويرى المدير العام للمركز العربي أنّ مفهوم الدولة الذي تتبناه الرؤية يتطابق مع رؤية بنيامين نتنياهو التي عبّر عنها في خطابه في جامعة بار إيلان بتاريخ 14 يونيو/ حزيران 2009؛ ويرى كذلك أن الوثيقة تتناول مفهوم السيادة بالتنظير على أنه مفهوم مرن وغير مطلق، وأن السيادة عثرة أمام السلام في تبرير فكرة الدولة بلا سيادة، وهي فكرة متناقضة لأن الدولة تعني السيادة، متسائلًا: "لماذا السيادة الفلسطينية فقط هي التي تحتاج إلى تنظير ويجب أن تكون مرنة؟!"
واعتبر بشارة أنّ الدولة الناشئة ستكون فعليّا داخل دولة إسرائيل وتحت سيطرتها، لدرجة تدخّل إسرائيل حتى في إدارة الأمن الداخلي الفلسطيني، وعمليًا تشرف عليه، وتشرف على المعابر والحدود الدولية، وتملك إسرائيل كذلك السيادة على الفضاء، وحتى حفر الآبار والمياه.
وأضاف أن من آثار "صفقة ترامب–نتنياهو" أنها تُكرّس فكرة مفادها أن منطق القوة هو الذي ينفع مع العرب، وذلك بالإملاء المباشر عليهم بما يجب عليهم فعله. لذلك، يرى أن السلوك العربي بعد الإعلان عن الصفقة يعدّ سابقة خطيرة تُشجع الإسرائيليين على فعل أي شيء واتباع المنطق نفسه مستقبلًا إن أرادوا ذلك. وشدد بشارة على أن منطق القوة لا يعني أن الشعب الفلسطيني سيبقى صامتًا، ولا يعني أيضًا أن يبقى الشعب العربي صامتًا.
كما أضاف بشارة أن قضية فلسطين هي قضية "أبارتهايد استعماري إحلالي"، مما يستوجب عند توافر الإرادة للنضال أن تتركز الجهود في مواجهة الصهيونية على محورَي قضية الأرض (الاحتلال، والاستيطان، وتهويد القدس، وغيرها) وقضايا العنصرية التي تضع النضال في مواجهة نظام الفصل العنصري، وأن يقوم بذلك كلٌ من موقعه، وأن تصاغ طروحات المناضلين ضد الاحتلال والعنصرية بلغة العدالة والتحرر الوطني والديمقراطية وحقوق الإنسان في كل مكان.
واختتم بشارة مداخلته بالقول إن ثمة ضرورة ملحة لإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ولدورها، على أن تتبنى استراتيجية وطنية تقوم على أساس ديمقراطي تسعى فيه لاستقطاب حركات التضامن العربية والدولية، وتتبنى فيه خيار المقاومة. وأوضح أن ذلك يتطلب في المقابل أن تنهض السلطة الفلسطينية بدورها بتسيير حياة الناس اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وأن تُترك قيادة الشعب الفلسطيني سياسيًّا واستراتيجية النضال لمؤسسات وهيئات غير مرتبطة باتفاقيات مع إسرائيل. وهذا يعني أن تنسحب منظمة التحرير الفلسطينية من جميع الاتفاقيات لأنها أصبحت باطلة؛ ما يعني أن تتجنب السلطة الخطأ الذي وقعت به بحرف المشروع الوطني الفلسطيني إلى "صنمية الدولة"، بدلًا من التركيز على التحرر من نظام الاستعمار والأبارتهايد.
وأعقبت المحاضرة مجموعة من الأسئلة والمداخلات قدمها الحضور الذي وصل عدده إلى أكثر من خمسمائة، من ضيوف وباحثي المركز العربي، وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته.