أين؟
إلى أين مضت ألعابي،
ألعاب الخيط المقطوع بالمطر؟
هل ستعيش في أعماق البحر مثل غرقى،
في أعماق السماء
مثل شهب من زجاج
في أعماق النهر مثل سلطعونات خضراء
في أعماق النار
مثل رماد الهلع؟
أم ستظل في أعماقي
مثل الأشباح؟
■ ■ ■
حكاية
(إلى أرنستو رامون أوروثكو)
هذا العصفور يلتهم الصمت
بنقرات كبيرة
يبحث عنه بين الأوراق الذابلة
رعشة
في الغصن الوحيد للمساء.
بعد حين يشرع بالطيران
غيمة مندفعة سيكون
فوق جبال زرقاء
حيث تزهرُ وحسب
أمي والنجوم.
ستكون الأغنية أحشاءً
والعين بلا صاحب
مما سيعيد غباراً
حجراً ينزف
بالضد من رصاص الطلقة.
على الرغم من أن هذا العصفور سيعود
منبعثاً من الدخان والرماد
ويحطّ من جديد
مثل عش
في الغصن الوحيد للمساء.
■ ■ ■
قصيدة مع نمر
(إلى أليكس فليتس)
يطاردني نمر بليك
ذهبُ جلده
دَويُّ نفاد صبره.
البارحة
بينما كانت تمطر
اقتحم علي اجتماع لجنتي
ولم تبق ورقة في مكانها
ـ آسف من أجل المحاضرات
التي أحضرها،
شربَ عينيّ صديقي
وبضربة واحدة ترك إستر عارية
ـ تحديداً إستر ـ
نهداها المجبولان من خشب مبارك
ارتجفا في الهواء،
برائحة طعم البرتقال ليقاوما النار.
يطاردني نمر بليك
تنفسه تنفس نيزك عظيم
ولهيب براثنه.
لن أنتهي أبداً من هذه القصيدة.
■ ■ ■
مقدمة
(إلى غابة رافائيل ألبرتي الضائعة)
عندما شق مذنب هالي
ـ عجوز السماوات الفاسد هذا ـ
بطعنات سكين بطن الليل،
جدّتي
التي لم تصبح جدّة بعد
ولا لأحد في هذا العالم،
حلمت بجديلة نظيفة
ودسّت في الهاون ست بيضات لطائر الدوري
والتي تحوّلت
ـ لا أحد يعرف كيف ـ
لغبار عاشق
ليعيد لوجهها طراوته
على نمط القمر الحزين.
لكن في زاوية أخرى من هذا العالم
الذي يدور مثل خلية زنابير
عندما احتفظ مذنب هالي
بمديته المدماة بالليل،
طفل غرناطي بعينين ساحليتين
شاء أن يمشط شعر الليل المندفع
برمحه الثلاثي الرؤوس لبحار في أرض صلبة.
لا بد أن القرن قد مرّ
يائساً
والتأمت جراح الليل
الطفل لم يعد ذاك الطفل
بل رجل عجوز
شاعر صحارى يعود،
الجدة لم تعد تلك الجدة
بل نحلة
تثقب روح
طفل آخر يمشط في الذكرى
الجديلة النظيفة
لليل العالم.
■ ■ ■
ميتافيزيقيا
لتعذروني
فالورقة بلا نافذة
وهذا القط المتوهج في السطح
الجدجد الخاطئ
كلس الجدران
الظل المرتعب للمذنب الأخير
وأستاذي في مادة الفلسفة
متوتر وممطر.
لكن أبعد كثيراً من واحدة من قبلاتك
ومن تلك العصافير
التي أطلّت محلقة من عينيك
من شعرك القصير
من الجهد القاحل للاجتماعات
ومن اللوز المعتم لنهديك،
بعيد جداً
لا وجود للواقع الموضوعي.
أنتِ وحسب والارتعاشة الخضراء للعدم.
■ ■ ■
فرضية
فكر بطليموس
بأن العالم مثل عين بعض النسوة
فضاء لكريستال رطب
وفي كل نجم يصِف فلكاً تاماً
بلا شغف
ولا مدد أو كوارث.
بعده جاء كوبرنيكوس
حكيم بدّل النهد بالحمام
جيب تمام الزاوية بالهلع
وحدقة الشمس التي كانت مركزاً للكون
بينما كان جيوراندو برونو يخشخش
من أجل سعادة القساوسة والأزواج.
حينذاك غاليلو
بدراسته العميقة لقلوب الصبايا
غرق في النبيذ الجيّد
ـ ضوء لزج بفعل الشمس ـ
اغتصب نجمات لم يكنّ نجمات سينما
وقبل أن يموت فوق ذيل مذنب
حكم أن الحب أبدي.
كانط، من طرفه، لم يعرف شيئاً عن النساء
فقد كان أسير فراشة الحساب
في الطلق الميتافيزيقي
أما هيغل
التجريدي جداً
فقد رأى الأمر كشأن مطلق.
بدوري
أضعُ للقرن العشرين
فرضية سهلة
يطلق عليها النقاد بالرومانسية،
إيه أيتها الصبية التي تقرأ هذه القصيدة
كل العالم يدور حولك.
■ ■ ■
برائحة غريبة تُذكّر بالعالم
وصل ثيسار باييخو تواً
جالباً معه حروق الحروب
عكازاً مكسوراً لمجابهة الظلال
معطفاً متعكراً
من الحزن
كالذي يرتديه دائماً.
وصل ثيسار باييخو تواً
بهيكل عظامه المسروقة
بابتسامة جافة
والقلب
عقدة منديل
وأربعين عاماً من الحمّى في النظر.
وصل ثيسار باييخو تواً
يسأل عن التشي غيفارا
وعن الحمير
يُحيّي الغائبين
ويبتدئ قصيدة
بحس إنساني بسيط
لها رائحة غريبة تُذكّر بالعالم.
■ ■ ■
احتفالات
"الموت ينتحر داخلي/ كل الأيام".
لويس كاردونا آراغون
سقط دنيس في أميركا وهو يهذي
ـ أمي كانت أمه الأخيرة
وكان عليها أن تغلق عينيه.
سقط مايتو، ذلك المزعج
بفم معوج كان يشجع الجميع
ـ كان قد جازف بكل هذا من أجل الجمال.
سقط أوزفالدو الغوانتاناميرو
بعمر ستة عشر عاماً وأربع عمليات
ـ الصمام مغلق بشكل أبدي.
سقط في ترينيداد أيضاً العم ماريو
أفضل الكل
دون يرقان بلا شفاء.
أنا لا أنفع الموت
ففي كل ليلة يغطيني
طحلب أزرق يعتقل الصوت
الدم لا يجري
أستمع لصمته
أغني
لأنني لا أجد شيئاً أفضل
من هذه الحرب المقدسة.
هناك يقدِمُ الموتى
للتحاور وليس للضحك عند الاستيقاظ.
هم مثل كل الناس
يأتي بانشو مدرانو الميت من أوسولتان
يأتي أيضاً غودوي الميت من كاماغواي
يدعوني للشرب بظمأ لا يروى.
هناك يمضي الموتى
ـ كانت زيارة قصيرة
هم بشر عاديون
بشر كل الحروب
أولئك الذين قضوا نحبهم من أجل وجبة إفطار.
■ ■ ■
قصيدة رومانتيكية
لا أستطيع منحكِ شبابي
فقد وهبته للذين
لا يستطيعون إعادته لي اليوم.
لا أستطيع أن أدعوك
لمشاركتي هذه العزلة
لأنني لا أعرف كيف أعيش بدونها.
أنا لا أستطيع أن أقدم لك
ولا حتى حباً مؤكداً
لأن ثقتي بكل شيء قد تبخرت تقريباً.
ولا أستطيع أن أقدم لك
غير اللاطمأنينة
لأنني لست سوى الفراغ وما سأكونه.
أنا لا أستطيع أن أهبك مستقبلي
لأنني لن أصل بعيداً
محملاً بهذا الماضي
ولا شيء أستطيع منحك إياه
غير رؤيتي عن العدم
هذا الوضوح الذي لا ينفع بشيء.
■ ■ ■
سونيت سوداء
أعرف هذا الصمت
برائحة نجمته التي لا تخطئ
هذا الصمت على وقع صراخ الأشياء
التي لا تستطيع الخلود.
من هم أولئك الذين يضطجعون
في توابيت حلمك المشرعة؟
هل دخلوا فيك
بعد أن نبش قبورهم المطر؟
هو وقت الآخر
الذي تخطُه ساعة النحل.
تبتدئ الآن تجارة الأرواح.
لماذا يبرقُ القمر وحسب
في نظرة هؤلاء الموتى؟
هل أنت الذي يحييني؟
■ ■ ■
طبيعة حيّة
كل اليوم وأنت تشيد
وهذا لا يكفي
يجب أن تفتح عينيك
حتى لا يعميك كل هذا الهدم،
كل اليوم وأنت ترتق
هذا العدم الصلد.
دون أي منطق
يهذيان هذان الحذاءان الممزقان
فوق مرعى أكتوبر
دون أن ألبسهما البتة
ويصدآن بنظرة واحدة.
تهذي الشمس الصلصالية
التي فقدت شظية
جذوة تاجها المحمض،
معلقة بمساء
بين أربع نخلات.
تهذي
أعمال النجار التي بلا عدّ
جدائل الحائكة القصيرة
التي فككت خيوط العالم
لتعيد خلقه.
بلا تفسير
تهذي هذه العين
مع أنني لم أرَ بها شيئاً
حيث الإعصار يرسم غيوماً
ليست من ملح.
لقد قبلتُ بالسلام
معك ومع الكواكب
جسر مروحة قصيدة.
كل شيء سيُدمَّر
ومن دون شك
اليومُ أعتقدُ بما تعتقد به.
* Víctor Rodríguez Núñez شاعر كوبي من مواليد هافانا عام 1955، وأحد أبرز الأسماء الشعرية في بلاده وفي اللغة الإسبانية اليوم. صدرت له مجموعات عديدة من بينها: "كاياما" 1979، "برائحة غريبة تُذكّرُ بالعالم" 1981، "أخبار الوحيد" 1987، "غرفة النشيج" 1993، "قصائد النكرة" 1994، "الأخير إلى المعرض" 1995، "صلاة ناقصة" 1999، "محاضرات منتصف الليل - 1" 2006، "محاضرات منتصف الليل - 2" 2007، و"مشاغل" 2011، و"على العكس" 2011.
** ترجمة عن الإسبانية: عبدالهادي سعدون