بدمع أو بغير دمع

20 مارس 2016
الورق يضعنا جنباً إلى جنب (فرانس برس)
+ الخط -

كثير من المأساة حدث بالفعل. قليل مما بقي منها، لن نبكي عليه. النفايات في شوارع المدينة وحدها تكفي. أصلاً، لم يعد من فسحة لأي شيء غيرها. للأفاعي الكبيرة والمخيفة فسحة. إن صحّ الخبر عنها أو لم يصحّ، المدينة تعج بالأفاعي. لكن هذا خبر قديم. أقدم من النفايات بكثير.

في النهاية، ربما نبكي على ما تبقّى من المأساة، بدمع أو بغير دمع. الأخبار سوف تنشر يومياً، بورق أو بغير ورق. لكن تلك مسألة أخرى، والأمر مختلف طبعاً. إن حدث فعلاً أو لم يحدث، احتمال كهذا الاحتمال كاف لكتابة نص كهذا النص.

يوم 15 مارس/آذار الجاري، دارت المأساة باتجاه الحبر الذي وثقها وما زال منذ ثلاث وأربعين سنة على الأقل. عدد من الصحف اللبنانيّة يطاردها شبح الإقفال، أو التوقف عن الصدور ورقياً بأحسن الأحوال.

لم أكن أعلم قبل أن تخبرني صديقتي جودي، بأنّ أول جريدة في لبنان صدرت في طرابلس. اليوم وبعد سنوات، ما زلت أجد في الفكرة شيئاً من الرومنسية. أذكر أنّ أول مقال نشر لي كان في جريدة طرابلسية. كنّا قد أنشأنا مع أصدقاء قدامى ملحقا شبابيا لجريدة محلية. كنّا نخطط ونبني ونعمّر ونفكّر ونكتب الشعر ونحن لسنا شعراء. كنت أتغيّب عن المدرسة، بمباركة أمي التي كانت توصلني بنفسها إلى مقهى نجتمع فيه قبل أن نتوجّه إلى بحر المينا. نشرب نسكافيه بألف ليرة لبنانية وندخّن سجائر بألفين. ننفث الدخان في الهواء ونقول إنّ لا فائدة من الأدب. لكننا نعود ونقول مزيداً من الشعر. وعندما يصدر "عددنا"، نفرح ونبني مجدداً ونخبئ لبعضنا بعضاً أعداداً نحسب أنها ستكون لأرشيفنا حجر الأساس. توسّع الأرشيف، لكنه تفرّق أيضاً. الملحق بالكاد انطلق، ثم أصبح لكل منّا أرشيفه الخاص. لكن طريق صديقتي وطريقي لطالما تقاطعا: أن يُنشر مقال لي ومقال لها في اليوم نفسه والصحيفة نفسها والصفحة نفسها بعد وقت. الكلمات تجمعنا أينما كنا، عبر الهاتف أو من خلال صديق مشترك أو بالتخاطر. لكن الورق يضعنا جنباً إلى جنب.

لمّا قرأت المقالة عن أزمة الصحف اللبنانية، لم أستطع إلا أن أتشارك الحزن وصديقتي عبيدة. أعود إلى حديثنا الأخير على واتساب قبل بضع ساعات. ألقي نظرة على صورة البروفايل: مكعّب أبيض بالكامل، وعند زاوية رسم طائرة صغيرة. أرسل لها الرابط ولا أقرأ النص. العنوان يقول الأساسي. أكتب لها أنّ هذا خبر بشع، وأنّ كل شيء أصبح بشعاً. وعلى الرغم من أنّني لا أفكّر في الهجرة ولا في السفر، أضيف: "في أوقات كهذه الأوقات تحديداً، أشعر بأنّ الرحيل عيب. لكن الاختناق وسط هذا كلّه لا يجوز أيضاً". أتفقد هاتفي في الصباح التالي، أجد رسالة على فيسبوك من عبيدة كتبتها بعد منتصف الليل: "كتير مخنوقة من قصّة اليوم". صورتها للبروفايل هنا تبدّلت، لم تعد صورتي معها في مقهى في ميدان إهدن، بل أخرى لا يظهر وجهانا فيها: مكعّب أبيض آخر يزيّنه رمز يعود إلى إحدى الجرائد "المطاردة".

اقرأ أيضاً: موحَش
المساهمون