03 نوفمبر 2024
انتخابات تركية مبكرة؟
طوال ثلاث عشرة سنة، عمل حزب العدالة والتنمية، ومن خلفه أردوغان، على تحويل المجتمع التركي إلى جمهور عريض له، بالتركيز على هدفه الثاني، التنمية، باعتبار أن العدالة شرط للتنمية، وهي محققة ضمناً. ونجح في تحويل الأتراك إلى مجتمع متوسط الدخل، يغلب عليه التعليم، والثقافة التي تعتقد أن التدين مرادف للأخلاق. عمل أردوغان، طوال هذا الوقت، مع شركاء، مثل أحمد داود أوغلو، وقبله عبد الله غول، ثم قرر فجأة أن يبقى وحيداً، فخاض الانتخابات أخيراً، وكأنه يقول إنه لا يحتاج رئيس وزراء، وكان أوغلو متجاوباً معه إلى حد بعيد، لكن المجتمع الذي صنعه أردوغان، بموجب مواصفات الطبقات المتوسطة، تصرّف على هذا الأساس، ورفض، كما يليق بالطبقة الوسطى، رئيساً مطلق الصلاحيات لصالح نوع من تقاسم السلطة، أفرزته الانتخابات، حيث لا هيمنة لحزب واحد.
استفاد أردوغان من الديمقراطية، ولم يتجاوزها، لكنه عرف كيف يذهب بها إلى الشوط الذي يريده بدهاء ديكتاتور. بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، خسر حزب "العدالة والتنمية" 10%، وخسر حزب الشعب 1%، فيما كسب حزب ديموقراطية الشعوب الكردي نحو 8%، وكسب "الحركة القومية" 3%. وبما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، لم يحصل "العدالة والتنمية" على كراسي كافية لتمرير مشروع أردوغان الرئاسي، لكنه بقي عنواناً عريضاً للسياسة التركية.
كان نزيف مؤيدي "العدالة والتنمية" الكرد لصالح حزب ديمقراطية الشعوب الذي يعتمد على مرشحين، نصفُهم نساء، وعلويون يتكلمون الكردية. والثمن الأكبر دفعه "العدالة والتنمية". ففي حين نجح، باستقطاب كردي واسع، في الانتخابات السابقة، أخفق هذه المرة، بعد أن جعل سقف وجوده عالياً ومسيطراً، وربما، مغطياً طموحات الكرد الراغبين برسم إشارة مؤثرة في البرلمان، وربما تحدياً لنسبة الـ 10% اللازمة لدخول البرلمان التي وُضعت خصيصاً لتمنعهم من اجتياز عتبة الجمعية الوطنية، فلجأ الحزب إلى تكتيكاتٍ، جذب فيها المدافعين عن حقوق النساء ونشطاء المجتمع المدني، ونجحت الخطة، لنجد حزب ديمقراطية الشعوب يتربع بقوة في البرلمان، وينتظر إشارة مفاوضات تشكيل الحكومة من الحزب الكبير، العدالة والتنمية، الذي انفتح على الكرد الذين يحظون بنسبة تمثيل مهمة في المجتمع التركي، وهي سياسة وطنية مهمة وضرورية لتوسيع التمثيل، لكن الحزب لم يفعل الشي نفسه مع العلويين الذين تقترب نسبتهم في المجتمع من نسبة الكرد، فضم المجلسُ السابق نائباً علوياً واحداً ضمن "العدالة والتنمية"، فيما خلا تماماً من العلويين في هذه الدورة. وقد حاول الحزب الإيحاء بأن "الشعب الجمهوري" حزب مخصص للعلويين، لكن توجهه المحافظ أوحى بأنه للسنّة. هذه العوامل، تنظيم الكرد صفوفهم، ووجود أوسع للعلويين بمواجهة "العدالة والتنمية"، وإحجام جزء من القوميين، جعلتْ الحزب يخسر تفوقه المطلق في البرلمان في دورته الحالية.
تتلخص احتمالات تشكيل الحكومة في أن يكون "العدالة والتنمية" مع أحد الأحزاب الثلاثة طرفاً، أو أن تجتمع هذه بمواجهة "العدالة والتنمية"، لتُخرجه من البرلمان. لكن تآلف الحزب مع أي منها دونه ألغام كثيرة، قومية، ومذهبية، ووطنية أيضاً. وقد يكون تآلف هذه الأحزاب، بدون "العدالة والتنمية"، أكثر صعوبة للأسباب السابقة نفسها. وقد قال رئيس حزب الشعوب الديمقراطي لـ"المنار"، بلسان تركي فصيح، على الرغم من تعصبه للغته الكردية، إنه يأمل قيام حكومة ائتلافية، لمّح إلى رغبته بألا يكون "العدالة والتنمية" جزءًا منها. الأكثر إثارة قوله إنه فاز في الانتخابات، لانحيازه للفقراء والمظلومين، فيما عاب على "العدالة والتنمية" وقوفه مع مظلومي سورية.
قد يكون الأرجح أن تذهب تركيا إلى انتخابات مبكرة، إلا إذا استطاع اختراقٌ ما أن يسهل ولادة حكومة ائتلاف. وحتى هذا الاحتمال، قد لا يكون عمره طويلاً، فالتاريخ السياسي التركي لم يعرف حكومة ائتلافية عمّرت حتى نهاية الدورة الانتخابية، ما قد يعيد الوضع إلى ما رجحناه بدايةً: إعادة الانتخابات.