يعيش اليمن أكثر اللحظات قتامةً في تاريخه الحديث، حيث البلاد عرضة لصراع مسلّح منذ أواخر 2014 سمح بانتشار الجماعات المتطرّفة، ويشهد كل يوم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مع شبه انعدام للخدمات الأساسية، وقد ألقى كل ذلك بطبيعة الحال ظلالاً قاتمة على كل مناحي الحياة، بما فيها المشهد الثقافي المرتبك أصلاً.
لا يقتصر هذا الواقع على النشر وإقامة الفعاليات الثقافية والندوات ومعرض الكتاب الذي لم يزر البلاد للعام الثالث على التوالي، بل ينسحب أيضاً على النتاج الأدبي وأجناسه، والمزاج العام للكتابة الذي يتّخذ عدّة أشكال منها التمترس خلفها كمقاومة للموت أو الانصراف نحو الكتابة السياسية أو التوقّف عنها حتى إشعار سياسي آخر.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول الشاعر عبد الحكيم الفقيه "الحرب كارثة وأثرها واضح في تعطيل الحياة الثقافية، فلا صحف ولا مجلّات ولا كهرباء ولا تلفاز. أكتب بين الفينة والأخرى بعض القصائد وبعض الالتزامات الأكاديمية، وأشارك في بعض شبكات التواصل". ويضيف "لست منهمكاً في عمل كتابي كبير؛ فظروف الحرب لا تشجّع، وأعتقد أن شبكات التواصل الاجتماعي، بعد لجوء الناس إلى الطاقة الشمسية، هي متنفّس كتّاب اليمن، وتكاد متابعات الحرب تستحوذ على وقت الكثيرين".
تتّفق القاصّة أسماء المصري مع الفقيه، "حالياً أقرأ أكثر مقارنةً بما أكتب، أقتنص سويعات من الوقت لكتابة نصوص قصيرة. إنّها مرحلة حرجة بالغة الحساسية تلك التي يعيشها الكاتب في وطن قابع تحت وطأة الحروب والصراعات وما تخلّفه من مآسٍ يومية، مرحلة صعبة كهذه لا بدّ أن تُلقي بظلالها على مختلف جوانب الحياة لدى الكاتب، وتحديداً الجانب النفسي والشعوري الذي ينعكس بالضرورة على الفكري والأدبي".
بدوره، يعتبر الروائي الغربي عمران أن "من الطبيعي أن يؤثّر فينا كل سلبي وكل إيجابي، لكنّها الحياة. يجب أن نعيش يومنا بمزاج نحاول أن يكون جيّداً حتى نكتب ونستمر في رسم الابتسامة، فلا نملك إلا اللحظة، وعلينا أن نعيشها بسعادة تحت أي ظرف".
وبالنسبة إلى أعماله الأدبية الحالية، يقول "أكتب في أكثر من عمل، منها بداية رواية جديدة، وأيضاً أقرأ وأكتب مقالات حول ما أقرؤه من أعمال أدبية في مواجهة ما تتّسم به مجتمعاتنا، ونحن شعب ما زلنا بحاجة إلى مزيد من التحرّر والصدمات لنتجاوز السلالية والمذهبية ونصل إلى مرحلة الوعي بالحريات وعدم إلغاء الآخر".
من جهته، يصف الشاعر عمرو الإرياني تأثير الحرب على الكتابة "بالتأكيد أن الواقع الذي يشهد حرباً مسلّحة مرعبة وقاسية تترك أثرها المباشر على الإنسان عامّة والكاتب خاصة، والذي في الأساس يمتلك القدرة على إعادة إنتاج هذا الواقع من خلال تصوّره ومشاعره ورؤيته تجاه الحياة والإنسان والنص". يضيف "من خلال تجربتي الشخصية، فإن الحرب بالنسبة إليّ هي ذاكرة مستمرّة شهدت عدّة حروب وآخرها في 2015، وهي الحرب الأكثر ضراوةً ورعباً، والتي لم تزل تباريحها يقظة. بالنسبة إليّ، فقد توقّفت الكتابة بمعناها المباشر أثناء الحرب، لكن لم تتوقّف مدخلاتها، فقد كانت تكتبني لأن الحرب في الافتراض والتصوّر سهلة التطويع ورأسك هادئ أعلى الجسد. أمّا أن تعيشها وتعيشك، فإن على رأسك أن ينجو أولاً. الحرب تفرض طبائعها وقوانينها المادية والموضوعية التي تؤثّر، بل وتغيّر بعض مسلّماتك العامّة والخاصّة المتصوّرة عن المكان والزمان كمفهومين موضوعيين، فلا شيء في الحرب يحتفظ بطبائعه المفترضة في السلام.. كل شيء من الحشرة حتى العبارة".
في سياق متّصل، يقول الروائي وجدي الأهدل "أعكف حالياً على مجموعة قصصية عن الديكتاتوريين الذين عذّبوا البشرية في القرن العشرين. أكتب عن استبدادهم وجنونهم وكم كانوا عاديين جداً، وربما الإنسان العادي أفضل منهم. نشرت عدّة قصص منها في الملحق الثقافي لـ "العربي الجديد"، وما نُشر حتى الآن هي قصص تخصّ كلّاً من: نيقولاي تشاوشيسكو وعيدي أمين وستالين وبوكاسا وفرانكو وهتلر وعمر بونغو". يضيف "الصراع المسلّح في اليمن فتح عينيّ على أمور معيّنة كانت غائبة عني، وفي مقدّمتها التفكير في الصفات المطلوب توفّرها في قائد الدولة، ومن له الحق في الحكم، وما هي المبادئ التي عليه أن يراعيها ويعمل بموجبها. أعتقد أن المجموعة القصصية التي أعمل عليها تفتح باباً للتفكير في مثل هذه الأمور".
من أبرز تجلّيات الوضع السياسي والأمني، ومؤخّراً العسكري، المتأرجح في اليمن هو انشغال كتّاب الأدب بالشأن السياسي تحليلاً وقراءةً باندماج كامل أبعدهم عن الأدب وكتابته بشتى صنوفه. تقول القاصّة هدى العطاس "منذ فترة وأنا منغمسة في الكتابة السياسية سواءً عبر المقالات الصحافية أو منشورات صفحتي في مواقع التواصل، أو نشاطي الحركي في إطار القضية الجنوبية، وحالي أظنه كحال أغلب الأدباء، زحَف السياسي بكل تداعياته على أوصال مشهدنا وتغلغَل في تفاصيل حياتنا وانسحب الثقافي والابداعي والأدبي منهزماً، مُفسحاً مساحة المشهد للغول السياسي، إلا النزر اليسير منها".
ترى العطّاس أنه بالنسبة إلى العلاقة بين المشهدَين السياسي والثقافي في اليمن، فإن "هناك إيقاعاً مرسوماً مسبقاً ومتحكّم فيه لحضور الثقافي وغيابه، ومثالاً على ذلك أن أكثر فترات المشهد الثقافي ازدهاراً كانت بعد حرب اجتياح الجنوب من قبل نظام صنعاء صيف 1994"، مضيفةً "أزعم أنّ دعم الثقافي جاء لإزاحة تركيز أو تسليط الضوء عن المشهد السياسي وسوداوية وكارثية ما أفرزته حرب 1994. كان حضور الثقافي الوسيلة الناجعة لامتصاص الطرح السياسي ودفعه إلى زوايا عدم التعاطي. ولاحقاً، أخفقت تلك الأدوات لأنها لم تظهر في سياق أصيل وضمن مشروع عمودي في غايته وأبعاده، بل استُخدمت ضمن استثمار اللحظة، مدفوعة بانتهازية السياسي ومزاجية مصالح الفئة النافذة في منظومة الحكم، وها هو السياسي يلقي بظلّه مجدّداً ويفجّر قبحه وبشاعة مآلاته في أرجاء المشهد، وهذا يقودنا لقولٍ أخيرٍ: لا عزاء للثقافي التابع والمُنتهك والمُستخدَم، لا عزاء للشياطين الخرس".