استمع إلى الملخص
- التأثير الاجتماعي والثقافي: فرضت المعاهدة "التبادل الإلزامي للسكان" بين تركيا واليونان، مما أدى إلى تهجير ملايين الأشخاص وتغيير التركيبة السكانية والثقافية في الأناضول والبلقان، مع تداعيات طويلة الأمد.
- الدراسات الحديثة: الكتاب "الكل صنع سلاماً، ولكن ما هو السلام؟" يقدم تحليلات جديدة لمعاهدة لوزان، مع التركيز على القانون الدولي وحقوق الأقليات، لكنه يفتقر إلى الأصوات العربية والكردية والألبانية المتأثرة بالمعاهدة.
مع الحرب القائمة على أكثر من جبهة في "الشرق الأوسط"، برز تعبير "اليوم التالي"، أو السلام الذي سيفرضه الطرف الأقوى، سواء بالمجابهات العسكرية أو المفاوضات، وهو ما يُعيد إلى الأذهان الجملة التي عبّر عنها إرنست همينغواي في خريف 1922 وهو يُغطّي جلسات مؤتمر لوزان للسلام، والذي انتهى بالتوقيع على "معاهدة لوزان" في 24 تمّوز/ يوليو 1923، التي كرّست حدود "الشرق الأوسط" الحالي: "الكلُّ صنع سلاماً، ولكن ما هو السلام؟".
في هذا السياق، صدر قبل أسابيع من بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة كتاب "الكلُّ صنع سلاماً، ولكن ما هو السلام؟ معاهدة لوزان 1923 والنظام الإمبريالي الجديد" بتحرير جوناثان كونلين وأوزان أوزافجي، والذي جاء مع كتب أُخرى مثل "المعاهدة الأخيرة: لوزان ونهاية الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط" لـ ميشيل توسان (كامبريدج، 2023)، ليؤكّد على أهمّية المقاربة الجديدة لمفهوم وواقع السلام في "الشرق الأوسط". وبالمقارنة مع الثاني، الذي عرضناه في "العربي الجديد" (26 آذار/ مارس 2024)، فإنّ الأوّل كتابٌ جماعي كانت مقاربته مختلفة، ولذلك فهو يُغني أكثر رؤيتنا عن خلفيات ونتائج هذه المعاهدة المهمّة بالنسبة إلى "الشرق الأوسط" الحالي.
والكتاب الجديد، الذي هو نتاج "مشروع لوزان"، جاء نتيجة لملاحظة المؤرّخ روبرت غيرث في دراسته المنشورة عام 2021 بعنوان "سماء ما بعد فرساي: معاهدات باريس في الإستوغرافيا الحالية"، التي شكا فيها من قلّة الدراسات الجديدة حول معاهدة فرساي. ولذلك حاول الكتاب أن يغطّي هذا النقص مع مقاربة جديدة تُغني الموضوع أكثر. فقد ركّزت الكتب والدراسات الأكاديمية على تناول الموضوع من خلال التاريخ الدبلوماسي، بينما كسر هذا الكتاب الحواجز بين التاريخ الدبلوماسي والعلوم المساعِدة للتعرّف إلى دور الصحافة والجماعات الدينية والجمعيات الخيرية ورجال المصارف والشركات العابرة للحدود، أي أنّه لا يُركّز فقط على الدبلوماسيّين المتفاوضين حول الطاولة، وإنما يشمل أيضاً ما دار في الغرف والقاعات المجاورة، وأثّر لاحقاً على سير المفاوضات.
ولا شكّ أنّ معاهدة لوزان تستحق هذا الاهتمام الذي ما زال متواصلاً حتى بعد تخطّي مئويتها، بسبب ما حملته المعاهدة من مستجدّات في العلاقات بين الغرب والشرق؛ فقد كان يُؤثَر عن اللورد جورج كرزون، وزير خارجية بريطانيا الأسبق، القول: "ها قد فرضنا شروطنا"، بينما ذهب إلى لوزان ليواجه مفاوضات صعبة وتنازلات لم تكن على البال بالنسبة للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأُولى (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان)، التي كانت قد فرضت شروطها في معاهدات باريس (1919 - 1920). ومن هذه المعاهدات معاهدة سيفر (1920)، مع الدولة العثمانية التي حوّلتها من إمبراطورية إلى دويلة في الأناضول، في حين أنّ معاهدة لوزان عكست متغيّرات القوى إذا قارنّا خريطة تركيا عام 1920 بما آل إليه الأمر عام 1923، حتى حُقّ لمندوب اليابان في مؤتمر لوزان القول إنّ "تركيا هي الوحيدة من أعدائنا السابقين التي استعادت ذاتها دون أن تخسر مكانتها". ولذلك لا نستغرب ما بذلته تركيا من جهد حتى 2008 لتحصل على طاولة المفاوضات التي جرى توقيع معاهدة لوزان عليها، لتُعرَض الآن في "متحف حرب الاستقلال والجمهورية" بأنقرة.
من حماية الأقليات إلى نسف التعايش
وُصفت معاهدة لوزان بكثير من المسمّيات؛ مثل: "بداية نهاية بريطانيا العظمى" و"نهاية سلطة الرجل الأبيض" و"معاهدة الشعب التركي - الذي يفوق عدُده قليلاً سكّان لندن الكبرى - الذي قد فرض شروطه على القوى الكبرى" وغير ذلك، ولكنّها كانت بالفعل المعاهدة التي نسفت التعايش الإثني والديني والثقافي الذي كان سمة الدولة العثمانية؛ حيث جاءت الدولة الوليدة (جمهورية تركيا) بعد عدّة أسابيع من توقيع المعاهدة لتُعبّر عن واقع جديد بعد تطبيق "التبادل الإلزامي للسكّان بين تركيا واليونان"، والذي جرى فيه ترحيل حوالي مليون ونصف مليون مسيحي من الأناضول إلى اليونان وتهجير حوالي نصف مليون مسلم من إثنيات مختلفة بحجّة أنهم من "الأتراك".
دراسات لستّة عشر باحثاً من تركيا وأوروبا والولايات المتّحدة
وفي الحقيقة يمكن القول إنّ الطرفَين التركي والأوروبي تخلّيا عن تراث قرون من التعايش بين الإثنيات والديانات في الأناضول والبلقان. ففي معاهدة برلين (1878)، التي اعترفت باستقلال دول البلقان (رومانيا وصربيا والجبل الأسود)، مع توسيع حدودها لتشمل مسلمين، نجد أن بنودها نصّت على حماية المسلمين واليهود في هذه الدول، بينما التزمت الدولة العثمانية بحماية الأرمن فيها، وهو الأمر الذي تضمّنته أيضا معاهدات 1913 و1914 بين الدولة العثمانية والدول البلقانية التي انتصرت عليها في حرب البلقان، ووصل إلى ذروته في معاهدات باريس (1919 - 1920)، التي تعهّدت فيها الدول المهزومة والدول المنتصرة في الحرب (يوغسلافيا واليونان)، بحماية الأقلّيات فيها، بينما نسفت معاهدة لوزان التعايش المستمرّ منذ قرون بغطاء من "عصبة الأمم" بتطبيق "معاهدة التبادل الإلزامي للسكّان بين اليونان وتركيا".
الأصوات الغائبة أو غير المعتبرة
بالنظر إلى أنّ الكتاب شارك فيه ستّة عشر باحثاً من تركيا وأوروبا والولايات المتّحدة، فقد كان شاملاً أكثر بمقاربته وحصيلته من الكتاب الآخر (المعاهدة الأخيرة: لوزان ونهاية الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط" لـ ميشيل توسان). ولكن مع هذا التنوّع، يُلاحَظ غياب المشاركة العربية في الكتاب، وحتى غياب أصوات العرب والأكراد والألبان وغيرهم من الذين تضرّروا من مؤتمر لوزان ونتائجه في معظم الدراسات المنشورة في الكتاب.
لكن، لدينا استثناء واحدٌ يستحق الذكر، وهو مشاركة المؤرّخة الأميركية إليزابيث ف. طومسون، التي اشتغلت على موضوع الحكومة العربية في دمشق والمملكة السورية التي أُعلنت في الثامن من آذار/ مارس 1920، مستلهمةً المبادئ الولسونية والديمقراطية الغربية وحماية الأقلّيات، بدراستها "استبعاد العرب في لوزان: منعطف تاريخي مهمّ".
وتجدر الإشارة، أيضاً، إلى استثناء آخر، وهو مشاركة مؤرّخَيْن تركي ويوناني في دراسة واحدة بعنوان "في مفترق طرق التاريخ: ثناسيس أغنيدس وإيريليوس سباثاريس وتبادل السكّان بين اليونان وتركيا".
توزّعت الدراسات الستّ عشرة في هذا الكتاب بين أربعة أقسام نشير إلى أهمّها. فأمّا القسم الأول، والذي حمل عنوان "من نظام إمبريالي إلى آخر"، فقد شمل دراسات إيمي م. جنيل "من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية: القانون الدولي وحقوق الأقلّيات قبل وبعد لوزان"، وإيرين غولدشتين "خطط بريطانيا لإمبراطورية شرق أوسطية جديدة 1916 - 1923"، وصموئيل ج. هيرست وإتيين فورستير - بيرات "على هامش مؤتمر لوزان: الاتحاد السوفييتي واستبعاد النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأُولى" وغيرها.
وأمّا القسم الثاني، وعنوانه "الحضور الغائب"، فتضمّن ثلاث دراسات مهمّة عن الأصوات التي كان يجب أن تُسمع أكثر وأن يكون لها حضورها في المعاهدة وليس فقط على هامش المؤتمر؛ فإضافةً إلى دراسة إليزابيث ف. طومسون، تناولت ليرنا إكمكجي أوغلو "نقاشات حول وطن قومي للأرمن في مؤتمر لوزان وحدود التعايش المشترك بعد الإبادة الجماعية"، وأضاءت ليلى كوتشاك زاده "المحاولات الإيرانية للمشاركة في مؤتمر لوزان".
وفي القسم الثالث، "تقديم تنازلات"، لدينا دراستان تتعلّقان بالعراق والكيانات الجديدة المنبثقة عن الدولة العثمانية، حيث تناولت ساره شيلدس "مسألة الموصل: لوزان وما بعدها"، وتناول باتريك شيلينغ ومصطفى إكسكال في دراسة مشتركة "تركيا وتوزيع الدَّيْن العثماني في لوزان".
وفي القسم الرابع بعنوان "تحريك الشعوب"، لدينا دراستان عن أسوأ ما نتج من معاهدة لوزان: "القانون الدولي وتبادل السكان بين اليونان وبلغاريا وبين اليونان وتركيا" لـ ليونارد سميث، و"سلام رأسمالي؟ المال والعمل وإعادة توطين اللاجئين في اتفاقيات لوزان" لـ لاورا روبسن.
تغيب أصوات العرب والأكراد والألبان عن معظم أوراق الكتاب
أمّا القسم الخامس والأخير بعنوان "تأطير لوزان"، فلدينا دراستان مهمّتان: "تأطير الماضي والمستقبل في مؤتمر لوزان" لـ هانز لوكاس قيصر، و"لوزان في الإستوغرافيا الرسمية والشعبية: 'حرب الهوية' في تركيا" لـ غوكهان تشيتنسايا.
وفي الحقيقة، فإنّ الدراسة الأخيرة مهمّة لما أشار إليه المحرّران في المقدّمة، فهي تُخبرنا كيف أنّ أربعة من أعضاء الوفد التركي في مفاوضات لوزان شاركوا في تأسيس "الجمعية التاريخية التركية" عام 1930، وأصبحوا من المنظّرين للإستوغرافيا الجديدة التي تمجّد تركيا والأتراك، إلى حدّ التنظير لكون الأتراك من أسلاف الأوروبيّين الذين صنعوا الحضارة الإنسانية. وربما لهذا السبب، فقد كُتب ونُشر عن مؤتمر لوزان في تركيا أكثر من أيّ دولة أو لغة أُخرى، وبقي الترقّب سيّد الموقف في انتظار مئوية لوزان عام 2023 للكشف عن "الاتفاقية السرّية" التي رُوّج لها في السنوات السابقة لأجندة سياسية.
وفي مقابل هذا الاهتمام الكبير في تركيا بمعاهدة لوزان، لدينا في اللغة العربية مشاركة متواضعة على المستوى العلمي، باستثناء الكتاب الأخير لجمال باروت "العلاقات العربية - التركية 1918 - 1923: السيرورة والتاريخ والمصائر" (2023)، الذي خصّص فيه فصلاً لمعاهدة لوزان. ومن هنا، فإنّ ترجمة هذا الكتاب إلى العربية قد تحفّز البحث العلمي أكثر حول غياب أو استبعاد المشاركة العربية من مؤتمر لوزان ونتائجها.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري