بعد نهاية الحرب الباردة، في عام 1989، وانضمام العديد من الدول الشرقية والجنوبية، المجاورة للنمسا، إلى الاتحاد الأوروبي، أثبت تمركز جمهورية النمسا، موطن أشهر عباقرة الفن الموسيقي، في قلب القارة العجوز أهميته الاستراتيجية على مر السنين، حيث استفادت كثيراً من فتح البوابة الشرقية لأوروبا مقارنة مع الأعضاء الغربيين القدامى في الاتحاد الأوروبي.
أولاً، ارتفع حجم التجارة مع أوروبا الوسطى والشرقية خلال العقدين الماضيين، ما ساعد النمسا على تقليص العجز التجاري إلى معدل يمكن السيطرة عليه. ثانياً، وهو الأهم، ارتفعت الاستثمارات النمساوية المباشرة في وسط وشرق أوروبا، بدءاً من مطلع التسعينيات، من قيمة تقارب الصفر إلى نحو 30 مليار دولار في عام 2013، أي ما يعادل 7.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي للنمسا. وتغيرت، أيضاً، نوعية الأعمال الاستثمارية التي كانت تقوم بها النمسا في المنطقة. ففي حين تركز الكثير من هذه الاستثمارات، على مدى عقود من الزمن، في الصناعات التحويلية، فإن جزءاً كبيراً منها بات اليوم يشتمل على العقار والخدمات المالية، من بينها المصارف النمساوية التي امتدت أجنحتها نحو الشرق.
أدى انفتاح النمسا على الشرق الأوروبي إلى زيادة النمو والعمالة بشكل ملحوظ، ساعدها على ذلك دخولها إلى كل من الاتحاد الأوروبي في عام 1995، والاتحاد الاقتصادي والنقدي في الاتحاد الأوروبي في عام 1999، إضافة إلى انضمام عشرة أعضاء جدد إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004.
اقرأ أيضا: تايوان... مثال للاقتصاد العائلي
بنظرة أوسع، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للنمسا بنحو 4٪ في المتوسط خلال العقد التالي لانفتاح النمسا على الشرق الأوروبي، وبلغ هذا المعدل 5.1% على مدى السنوات العشر اللاحقة لانضمام النمسا إلى الاتحاد الأوروبي. في الوقت الحالي، يكمن الفرق الأساسي بين النمسا وجيرانها، في الجنوب والشرق، في كون النمسا أكثر ثراء بكثير.
في الواقع، تعتبر النمسا أفضل حالاً من معظم جيرانها في الغرب الأوروبي، أيضاً، فقد نما اقتصادها في السنوات الأخيرة بوتيرة أسرع بكثير من هذه الدول، ما يبرر حلولها كرابع أغنى دولة في الاتحاد الأوروبي من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
وللحياة في الأماكن المغلقة مزايا عديدة مع ارتفاع الإنفاق الحكومي على المناحي الثقافية في البلاد والذي امتد أثره، ليس فقط في إحياء مقطوعات "موتسارت" و"ستراوس"، لكن، أيضاً، على الجوانب الثقافية الجديدة التي تُعرض لأول مرة.
ويبدو أن نظام التمثيل النسبي المتبع في النمسا، الذي يميل عادة إلى تشكيل حكومات ائتلافية كبيرة، يعكس رغبات شعبها إلى حد كبير. يظهر ذلك جلياً من خلال التقاليد المرتبطة بـ "الشراكة الاجتماعية"، بين أصحاب العمل والعمال، الكفيلة في خلق فترة طويلة من السلم الاجتماعي، إذ ينعم مواطنو النمسا برفاهية نسبية في وقت الشدائد والأزمات الاقتصادية، وإن لم يكن ذلك بنفس مستوى الرفاهية المتوفر في بلدان الشمال الأوروبي، لكنه يسمح للكثير من المتقاعدين بالحصول على معاشات تقاعدية تقارب قيمتها ما نسبته 90% من أجورهم الفعلية المكتسبة.
اقرأ أيضا: "هونغ كونغ" المركز المالي الأقوى
وفي حين تعمل القطارات والترام والحافلات في موعدها، عموماً، فإن مشاهد الطبيعة الجميلة من جبال وبحيرات وغابات، التي يتم الاعتناء بها من قبل شعب يتمتع بوعي بيئي عالٍ، يوفر جودة عالية من الحياة في الهواء الطلق، ويسهم، كذلك، في جلب الكثير من السياح الأثرياء. ولا يحتاج النمساويون للقلق حول الحوادث النووية على تراب البلد، فمحطة الطاقة النووية الوحيدة في "زوينتندورف" قد تم إيقافها منذ نحو 40 عاماً، في حين فشلت الدول المجاورة، مثل جمهورية التشيك، في اتخاذ احتياطات وقائية مماثلة.
ولكن هل كل هذا الإبهار الاقتصادي قادر على جعل النمسا بمثابة "جزيرة مباركة"؟ في الواقع، إن هذا الوصف، تحديداً، قد صاغه البابا بولس السادس في عام 1971 في وصفه لجمهورية النمسا حينذاك، ما لبث أن أصبح شعار الدولة الحقيقي المتمثل في تحقيق الرفاهية، والعدالة الاجتماعية، ومجتمع متناغم. ورغم أن النمساويين لا يزالون ينعمون بهذه النعم، لكن لا يجب أن تؤخذ كأمر مسلم به، ذلك أن، في عصر العولمة، لا توجد دولة قادرة على الاستمرار والنمو في "جزيرة" من الرفاهية، وبمعزل عن المؤثرات الخارجية.
(خبير اقتصادي أردني)
أولاً، ارتفع حجم التجارة مع أوروبا الوسطى والشرقية خلال العقدين الماضيين، ما ساعد النمسا على تقليص العجز التجاري إلى معدل يمكن السيطرة عليه. ثانياً، وهو الأهم، ارتفعت الاستثمارات النمساوية المباشرة في وسط وشرق أوروبا، بدءاً من مطلع التسعينيات، من قيمة تقارب الصفر إلى نحو 30 مليار دولار في عام 2013، أي ما يعادل 7.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي للنمسا. وتغيرت، أيضاً، نوعية الأعمال الاستثمارية التي كانت تقوم بها النمسا في المنطقة. ففي حين تركز الكثير من هذه الاستثمارات، على مدى عقود من الزمن، في الصناعات التحويلية، فإن جزءاً كبيراً منها بات اليوم يشتمل على العقار والخدمات المالية، من بينها المصارف النمساوية التي امتدت أجنحتها نحو الشرق.
أدى انفتاح النمسا على الشرق الأوروبي إلى زيادة النمو والعمالة بشكل ملحوظ، ساعدها على ذلك دخولها إلى كل من الاتحاد الأوروبي في عام 1995، والاتحاد الاقتصادي والنقدي في الاتحاد الأوروبي في عام 1999، إضافة إلى انضمام عشرة أعضاء جدد إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004.
اقرأ أيضا: تايوان... مثال للاقتصاد العائلي
بنظرة أوسع، نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للنمسا بنحو 4٪ في المتوسط خلال العقد التالي لانفتاح النمسا على الشرق الأوروبي، وبلغ هذا المعدل 5.1% على مدى السنوات العشر اللاحقة لانضمام النمسا إلى الاتحاد الأوروبي. في الوقت الحالي، يكمن الفرق الأساسي بين النمسا وجيرانها، في الجنوب والشرق، في كون النمسا أكثر ثراء بكثير.
في الواقع، تعتبر النمسا أفضل حالاً من معظم جيرانها في الغرب الأوروبي، أيضاً، فقد نما اقتصادها في السنوات الأخيرة بوتيرة أسرع بكثير من هذه الدول، ما يبرر حلولها كرابع أغنى دولة في الاتحاد الأوروبي من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد.
وللحياة في الأماكن المغلقة مزايا عديدة مع ارتفاع الإنفاق الحكومي على المناحي الثقافية في البلاد والذي امتد أثره، ليس فقط في إحياء مقطوعات "موتسارت" و"ستراوس"، لكن، أيضاً، على الجوانب الثقافية الجديدة التي تُعرض لأول مرة.
ويبدو أن نظام التمثيل النسبي المتبع في النمسا، الذي يميل عادة إلى تشكيل حكومات ائتلافية كبيرة، يعكس رغبات شعبها إلى حد كبير. يظهر ذلك جلياً من خلال التقاليد المرتبطة بـ "الشراكة الاجتماعية"، بين أصحاب العمل والعمال، الكفيلة في خلق فترة طويلة من السلم الاجتماعي، إذ ينعم مواطنو النمسا برفاهية نسبية في وقت الشدائد والأزمات الاقتصادية، وإن لم يكن ذلك بنفس مستوى الرفاهية المتوفر في بلدان الشمال الأوروبي، لكنه يسمح للكثير من المتقاعدين بالحصول على معاشات تقاعدية تقارب قيمتها ما نسبته 90% من أجورهم الفعلية المكتسبة.
اقرأ أيضا: "هونغ كونغ" المركز المالي الأقوى
وفي حين تعمل القطارات والترام والحافلات في موعدها، عموماً، فإن مشاهد الطبيعة الجميلة من جبال وبحيرات وغابات، التي يتم الاعتناء بها من قبل شعب يتمتع بوعي بيئي عالٍ، يوفر جودة عالية من الحياة في الهواء الطلق، ويسهم، كذلك، في جلب الكثير من السياح الأثرياء. ولا يحتاج النمساويون للقلق حول الحوادث النووية على تراب البلد، فمحطة الطاقة النووية الوحيدة في "زوينتندورف" قد تم إيقافها منذ نحو 40 عاماً، في حين فشلت الدول المجاورة، مثل جمهورية التشيك، في اتخاذ احتياطات وقائية مماثلة.
ولكن هل كل هذا الإبهار الاقتصادي قادر على جعل النمسا بمثابة "جزيرة مباركة"؟ في الواقع، إن هذا الوصف، تحديداً، قد صاغه البابا بولس السادس في عام 1971 في وصفه لجمهورية النمسا حينذاك، ما لبث أن أصبح شعار الدولة الحقيقي المتمثل في تحقيق الرفاهية، والعدالة الاجتماعية، ومجتمع متناغم. ورغم أن النمساويين لا يزالون ينعمون بهذه النعم، لكن لا يجب أن تؤخذ كأمر مسلم به، ذلك أن، في عصر العولمة، لا توجد دولة قادرة على الاستمرار والنمو في "جزيرة" من الرفاهية، وبمعزل عن المؤثرات الخارجية.
(خبير اقتصادي أردني)