29 سبتمبر 2017
الناجي الأخير من مجزرة الصفصاف
استخدمت مفردة المحرقة، أو الهولوكوست، أو الشواه بالعبرية، لتشير إلى الكارثة التي أوقعتها النازية باليهود في الثلث الثاني من القرن العشرين، وظلّ للمفردة جاذبيتها اللغوية، وسحرها، في الاستخدام عند الحديث عن عمليات القتل الجماعية، إلاّ أن الثقافة الصهيونية احتكرت المفردة، واعتبرتها ملكاً حصرياً لمأساة اليهود، ومن معاني اضطهادهم الذي يبرّر أفعال القتل التي يرتكبها الصهاينة، منذ أكثر من سبعة عقود بحق الفلسطينيين والعرب.
ارتكبت العصابات اليهودية قبل تأسيس دولة إسرائيل، ولا تزال، عدة مجازر جماعية، ذهب ضحيتها آلاف من الفلسطينيين والعرب. ولم يتمكن تاريخ اللغة من انتزاع الحق في نحت مفردةٍ لها تلك الجاذبية والسحر التي حظيت بها مفردة المحرقة التي عملت الصهيونية على احتكار معناها، كما احتكرت المعاناة البشرية لليهود، على الرغم من إبادة الفلسطينيين وهويتهم وجعلهم الوحيدين في العصر الحديث بلا هوية وبلا وطن. منذ بدأت الحركة الصهيونية مشروعها لتأسيس دولة اليهود على أرض فلسطين، وإلى اليوم لم يتوقف القتل بحق الفلسطينيين، ولو حاولنا أن نحصي عدد المجازر المرتكبة وعمليات التطهير العرقي بحقهم على مدى سبعة عقود، لربما تلاشى معنى المحرقة التي خلّدها الفكر الصهيوني في تاريخ اللغة، في سياق الاستمرارية في الزمان.
قبل أيام، وبعد 67 عاماً بالتمام على نكبة فلسطين، رحل في مخيم عين الحلوة، أبو كامل عبد قاسم يونس، أحد الناجين من مجزرة قرية الصفصاف قضاء صفد التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، ليلة 28 أكتوبر/تشرين الأول عام 1948، وأعدموا رمياً بالرصاص 64 من شباب القرية، واغتصبوا أربع نساء، أصغرهن في الرابعة عشرة من العمر. أصيب عبد قاسم يونس في يده وأنحاء مختلفة من جسمه، لكنه ادعى أنه ميت، ليتم إنقاذه في اليوم التالي للمجزرة، ويهجّر مع بقية عائلات القرية إلى لبنان وسورية. كان أبو كامل في الثلاثين من العمر، وعاش في عين الحلوة بقية عمره الطويل، ومات في السابعة والتسعين.
كنا نعرف، منذ صغرنا، حكاية أبو كامل، وكيف نجا من الموت، وكيف نجح في خداع القتلة، وكانت الحكاية تثير مخيلاتنا الصغيرة، فنروح ننسج حكاياتٍ، فيها من الإثارة والشجن والبطولة والحزن ما يفوق بتفاصيلها كل حكايات أفلام المغامرات التي كنا نشاهدها في سينما المخيم. لم يكن أبو كامل "الصفصاف" صاحب الدكان، وهذا هو اسمه المتداول في طفولتنا، الناجي من المجزرة فقط، وكانت الإصابة في يده اليسرى التي تركت له صعوبة دائمة في تحريكها دليلاً على نجاته، ما جعله يختار مهنة التجارة التي لا تحتاج قوة بدنية، بل كان أبو كامل أيضاً عنواننا البريدي في المخيم، فقد كان دكانه من أول الدكاكين في المخيم، والقائم في مدخله الفوقاني، وعلى المفرق الداخلي المؤدي إلى تلة سيروب. وهكذا كان عنوان المكاتيب المرسلة من الخارج إلى المخيم، مخيم عين الحلوة، مفرق سيروب، دكان أبو كامل الصفصاف، ثم اسم المرسل إليه.
كان الأهالي يذهبون صباحاً إلى الدكان. يصل المتلهفون باكراً، ليسألوا ساعي البريد اللبناني "أبو جورج" عن بريدهم، واليائسون من وصول الرسائل يأتون في أي ساعة، يسألون أبو كامل عن بريدهم. كان "أبو جورج" يتحاشى الدخول إلى مجاهل المخيم، فكان دكان أبو كامل الصفصاف مكانه الآمن والمفضل. يضع بريد الناس عنده، ويعود إلى المدينة من غير حاجة إلى المكوث طويلاً.
ظلّ دكان أبو كامل الصفصاف عنواناً بريدياً ثابتاً لنا إلى أن اجتاحت إسرائيل نفسها التي حاولت قتل أبو كامل عام 1948 ولم تفلح، لبنان عام 1982، ودخلت بآلياتها مخيم عين الحلوة، وجرّفت البيوت والدكاكين، ومنها دكان أبو كامل الصفصاف، لكنها لم تفلح في قتله هذه المرة أيضاً، غير أنها أزالت من الوجود عنواننا البريدي الأثير.
ارتكبت العصابات اليهودية قبل تأسيس دولة إسرائيل، ولا تزال، عدة مجازر جماعية، ذهب ضحيتها آلاف من الفلسطينيين والعرب. ولم يتمكن تاريخ اللغة من انتزاع الحق في نحت مفردةٍ لها تلك الجاذبية والسحر التي حظيت بها مفردة المحرقة التي عملت الصهيونية على احتكار معناها، كما احتكرت المعاناة البشرية لليهود، على الرغم من إبادة الفلسطينيين وهويتهم وجعلهم الوحيدين في العصر الحديث بلا هوية وبلا وطن. منذ بدأت الحركة الصهيونية مشروعها لتأسيس دولة اليهود على أرض فلسطين، وإلى اليوم لم يتوقف القتل بحق الفلسطينيين، ولو حاولنا أن نحصي عدد المجازر المرتكبة وعمليات التطهير العرقي بحقهم على مدى سبعة عقود، لربما تلاشى معنى المحرقة التي خلّدها الفكر الصهيوني في تاريخ اللغة، في سياق الاستمرارية في الزمان.
قبل أيام، وبعد 67 عاماً بالتمام على نكبة فلسطين، رحل في مخيم عين الحلوة، أبو كامل عبد قاسم يونس، أحد الناجين من مجزرة قرية الصفصاف قضاء صفد التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، ليلة 28 أكتوبر/تشرين الأول عام 1948، وأعدموا رمياً بالرصاص 64 من شباب القرية، واغتصبوا أربع نساء، أصغرهن في الرابعة عشرة من العمر. أصيب عبد قاسم يونس في يده وأنحاء مختلفة من جسمه، لكنه ادعى أنه ميت، ليتم إنقاذه في اليوم التالي للمجزرة، ويهجّر مع بقية عائلات القرية إلى لبنان وسورية. كان أبو كامل في الثلاثين من العمر، وعاش في عين الحلوة بقية عمره الطويل، ومات في السابعة والتسعين.
كنا نعرف، منذ صغرنا، حكاية أبو كامل، وكيف نجا من الموت، وكيف نجح في خداع القتلة، وكانت الحكاية تثير مخيلاتنا الصغيرة، فنروح ننسج حكاياتٍ، فيها من الإثارة والشجن والبطولة والحزن ما يفوق بتفاصيلها كل حكايات أفلام المغامرات التي كنا نشاهدها في سينما المخيم. لم يكن أبو كامل "الصفصاف" صاحب الدكان، وهذا هو اسمه المتداول في طفولتنا، الناجي من المجزرة فقط، وكانت الإصابة في يده اليسرى التي تركت له صعوبة دائمة في تحريكها دليلاً على نجاته، ما جعله يختار مهنة التجارة التي لا تحتاج قوة بدنية، بل كان أبو كامل أيضاً عنواننا البريدي في المخيم، فقد كان دكانه من أول الدكاكين في المخيم، والقائم في مدخله الفوقاني، وعلى المفرق الداخلي المؤدي إلى تلة سيروب. وهكذا كان عنوان المكاتيب المرسلة من الخارج إلى المخيم، مخيم عين الحلوة، مفرق سيروب، دكان أبو كامل الصفصاف، ثم اسم المرسل إليه.
كان الأهالي يذهبون صباحاً إلى الدكان. يصل المتلهفون باكراً، ليسألوا ساعي البريد اللبناني "أبو جورج" عن بريدهم، واليائسون من وصول الرسائل يأتون في أي ساعة، يسألون أبو كامل عن بريدهم. كان "أبو جورج" يتحاشى الدخول إلى مجاهل المخيم، فكان دكان أبو كامل الصفصاف مكانه الآمن والمفضل. يضع بريد الناس عنده، ويعود إلى المدينة من غير حاجة إلى المكوث طويلاً.
ظلّ دكان أبو كامل الصفصاف عنواناً بريدياً ثابتاً لنا إلى أن اجتاحت إسرائيل نفسها التي حاولت قتل أبو كامل عام 1948 ولم تفلح، لبنان عام 1982، ودخلت بآلياتها مخيم عين الحلوة، وجرّفت البيوت والدكاكين، ومنها دكان أبو كامل الصفصاف، لكنها لم تفلح في قتله هذه المرة أيضاً، غير أنها أزالت من الوجود عنواننا البريدي الأثير.