أنتجت هجمات باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهجمات بروكسل في مارس/ آذار الماضي نقاشات عديدة حول السبب الذي يجعل من بعض المهاجرين العرب والمسلمين الذين ولدوا ونشأوا وتربوا في بيئة أوروبية بالكامل، يتجهون إلى العنف وينجذبون نحو نموذج تنظيم داعش، رغم عدم احتكاكهم بأي بيئات إسلامية. فقد خرج ثلاثة من منفذي هجمات باريس من حي "مولينبيك" الفقير والمكتظ بالمهاجرين في بروكسل، كما أن منفذي هجمات بروكسل الأخيرة خالد وإبراهيم البكراوي كانا مرتبطين بالشبكة التي خططت لهجمات باريس في نفس الحي.
ضمن هذه الجهود نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، نتائج مشروع بدأته قبل أشهر لاختبار العديد من الفرضيات التي تفسر الاتجاه نحو التشدد، ليتضح أن أقوى مؤشر للتطرف ينتج من كون الدولة تتحدث اللغة الفرنسية أو تتبنى الثقافة الفرانكفونية، حيث توصل البحث إلى أن أربع من أصل خمس دول تشهد معدلات للتطرف هي دول فرانكفونية، بما فيها فرنسا وبلجيكا.
أرجع الباحثون هذه النتائج إلى عدة عوامل، منها أن العلمانية على النمط الفرنسي تعتبر أكثر تشدداً تجاه الدين من أي نموذج علماني آخر، ضاربين مثلاً بكون فرنسا وبلجيكا هما الدولتان الوحيدتان في أوروبا اللتان تحظران النقاب في المدارس العامة.
هذا التشدد لا يكون فقط تجاه الأديان وإنما الثقافات الأخرى المخالفة للثقافة الفرنسية، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي هوغ لاغرانغ مصطلح "نكران الثقافات"، في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن مشروع "ترجمان".
توصل الكتاب -الذي انتهى منه كاتبه قبل ثورات الربيع العربي- إلى نتيجة مشابهة لتلك التي جاءت بها المجلة الأميركية قبل أيام قليلة، ولكن بصورة أكثر إجمالاً وشمولية. حيث يتناول المهاجرين من كافة البيئات بما فيهم غير المسلمين خاصة الأفارقة والآسيويين منهم. إذ أن محاولات فرض الثقافة الفرنسية على المهاجرين الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، وتجاهل ثقافاتهم تلك، وعدم وضعها في الاعتبار قد دفع المهاجرين إلى الانعزال عن البيئة الفرنسية والأوروبية عموماً والاتجاه نحو تعميق الروابط مع ثقافاتهم الأصلية التي جاؤوا منها.
اقــرأ أيضاً
لكن هذا الانعزال لم يقتصر فقط على المهاجرين، وإنما كان السمة البارزة التي صبغت تعامل الفرنسيين أنفسهم مع موجات الهجرة القادمة إليهم، فتعاملوا معها باستعلاء وحرصوا على ترك مسافة بينهم وبين القادمين وتقوقعوا داخل مجتمعاتهم المحلية.
يؤرخ الكاتب للهجرات المتتالية إلى فرنسا على مدار ثلاثة عقود، نظراً لحاجة الاقتصاد الفرنسي إلى أيد عاملة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي فترة شهدت ازدهاراً كبيراً، أعقبتها فترات من الركود، تزامنت مع موجات جديدة من الهجرة غير الشرعية بدأت في الثمانينيات من القرن الماضي، تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والمعيشية والحروب الأهلية والاضطهادات السياسية والعرقية في البلدان الطاردة، والاتساع الهائل للفجوة بين البلدان الأفريقية وبلدان أوروبا، وهو ما انعكس على البلد المستقبل "فرنسا" الذي شهد تفاقماً للبطالة وتوسعاً في التفاوت الاجتماعي والفقر، وبالتالي أدى إلى تبدل في المزاج الشعبي تجاه المهاجرين.
خضعت أحياء المهاجرين شيئاً فشيئاً لعادات وتقاليد اعتبرت غير ملائمة مع المبادئ الأساسية للمجتمعات الغربية، وهذا في نظر السكان الأصليين الفرنسيين عُدّ تعبيراً عن رفض للاندماج لا يمكن التساهل معه. ونُظر إلى المهاجرين باعتبارهم مذنبين لأنهم لم ينسلخوا عن ثقافتها الأصلية. إلا أن المؤلف يتطرق لفكرة "إدماج المهاجرين" من زاوية جديدة، فهو يحارب فكرة "الدمج" والإصرار عليها ويدعو لاحترام الثقافات الفرعية في فرنسا، ويطلب من القائمين على العمل العام إلى عدم التخلي عن وضع سياسات الدمج موضع التطبيق، لكن مع ضرورة الأخذ في الاعتبار اختلاف الثقافات الموجودة على الأرض الفرنسية، والاعتراف بوجود مشكلة ثقافية في أحياء المهاجرين لن تحل بالإجراءات السلطوية والإجبار والتجاهل المتعمد للهوة الثقافية، فالوعي بالاختلافات الثقافية من شأنه أن يدفع إلى الأمام. مضيفاً "لابد من ترك الأحادية والتسليم بأن المجتمع الفرنسي كغيره من مجتمعات الاستقبال الأخرى قد أصبح مجتمعاً تعددياً وعليه أن يسلم بهذه التعددية الثقافية".
ويتوجه الكتاب باللوم إلى سياسات الدولة العامة، وسلوكيات المجتمع المحلي الفرنسي أيضاً، حيث يسود خطاب كراهية ومعاداة المهاجرين والحديث عنهم بكونهم غير مرغوب فيهم، وهو خطاب يشترك فيه السياسيون مع مواقف التيار المركزي في المجتمع المدني.
(كاتب مصري)
اقــرأ أيضاً
ضمن هذه الجهود نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، نتائج مشروع بدأته قبل أشهر لاختبار العديد من الفرضيات التي تفسر الاتجاه نحو التشدد، ليتضح أن أقوى مؤشر للتطرف ينتج من كون الدولة تتحدث اللغة الفرنسية أو تتبنى الثقافة الفرانكفونية، حيث توصل البحث إلى أن أربع من أصل خمس دول تشهد معدلات للتطرف هي دول فرانكفونية، بما فيها فرنسا وبلجيكا.
أرجع الباحثون هذه النتائج إلى عدة عوامل، منها أن العلمانية على النمط الفرنسي تعتبر أكثر تشدداً تجاه الدين من أي نموذج علماني آخر، ضاربين مثلاً بكون فرنسا وبلجيكا هما الدولتان الوحيدتان في أوروبا اللتان تحظران النقاب في المدارس العامة.
هذا التشدد لا يكون فقط تجاه الأديان وإنما الثقافات الأخرى المخالفة للثقافة الفرنسية، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي هوغ لاغرانغ مصطلح "نكران الثقافات"، في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن مشروع "ترجمان".
توصل الكتاب -الذي انتهى منه كاتبه قبل ثورات الربيع العربي- إلى نتيجة مشابهة لتلك التي جاءت بها المجلة الأميركية قبل أيام قليلة، ولكن بصورة أكثر إجمالاً وشمولية. حيث يتناول المهاجرين من كافة البيئات بما فيهم غير المسلمين خاصة الأفارقة والآسيويين منهم. إذ أن محاولات فرض الثقافة الفرنسية على المهاجرين الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، وتجاهل ثقافاتهم تلك، وعدم وضعها في الاعتبار قد دفع المهاجرين إلى الانعزال عن البيئة الفرنسية والأوروبية عموماً والاتجاه نحو تعميق الروابط مع ثقافاتهم الأصلية التي جاؤوا منها.
يؤرخ الكاتب للهجرات المتتالية إلى فرنسا على مدار ثلاثة عقود، نظراً لحاجة الاقتصاد الفرنسي إلى أيد عاملة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي فترة شهدت ازدهاراً كبيراً، أعقبتها فترات من الركود، تزامنت مع موجات جديدة من الهجرة غير الشرعية بدأت في الثمانينيات من القرن الماضي، تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والمعيشية والحروب الأهلية والاضطهادات السياسية والعرقية في البلدان الطاردة، والاتساع الهائل للفجوة بين البلدان الأفريقية وبلدان أوروبا، وهو ما انعكس على البلد المستقبل "فرنسا" الذي شهد تفاقماً للبطالة وتوسعاً في التفاوت الاجتماعي والفقر، وبالتالي أدى إلى تبدل في المزاج الشعبي تجاه المهاجرين.
خضعت أحياء المهاجرين شيئاً فشيئاً لعادات وتقاليد اعتبرت غير ملائمة مع المبادئ الأساسية للمجتمعات الغربية، وهذا في نظر السكان الأصليين الفرنسيين عُدّ تعبيراً عن رفض للاندماج لا يمكن التساهل معه. ونُظر إلى المهاجرين باعتبارهم مذنبين لأنهم لم ينسلخوا عن ثقافتها الأصلية. إلا أن المؤلف يتطرق لفكرة "إدماج المهاجرين" من زاوية جديدة، فهو يحارب فكرة "الدمج" والإصرار عليها ويدعو لاحترام الثقافات الفرعية في فرنسا، ويطلب من القائمين على العمل العام إلى عدم التخلي عن وضع سياسات الدمج موضع التطبيق، لكن مع ضرورة الأخذ في الاعتبار اختلاف الثقافات الموجودة على الأرض الفرنسية، والاعتراف بوجود مشكلة ثقافية في أحياء المهاجرين لن تحل بالإجراءات السلطوية والإجبار والتجاهل المتعمد للهوة الثقافية، فالوعي بالاختلافات الثقافية من شأنه أن يدفع إلى الأمام. مضيفاً "لابد من ترك الأحادية والتسليم بأن المجتمع الفرنسي كغيره من مجتمعات الاستقبال الأخرى قد أصبح مجتمعاً تعددياً وعليه أن يسلم بهذه التعددية الثقافية".
ويتوجه الكتاب باللوم إلى سياسات الدولة العامة، وسلوكيات المجتمع المحلي الفرنسي أيضاً، حيث يسود خطاب كراهية ومعاداة المهاجرين والحديث عنهم بكونهم غير مرغوب فيهم، وهو خطاب يشترك فيه السياسيون مع مواقف التيار المركزي في المجتمع المدني.
(كاتب مصري)