المقدسيون يدفعون ثمن رفض مدينتهم "عاصمة الاحتلال الموحّدة"

24 أكتوبر 2015
الأهالي والتلاميذ يمرّون بين الحواجز الإسمنتية (محفوظ أبو ترك/الأناضول)
+ الخط -
كانت دقائق معدودة كفيلة بإزهاق حياة المسنّة المقدسية هدى محمد درويش (67 عاماً)، أول من أمس الإثنين، عند حاجز عسكري أقامه جنود الاحتلال على المدخل الرئيسي لبلدة العيسوية شمالي القدس المحتلة، ما حال دون وصولها إلى المستشفى الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار عن منزلها المحاصر كما بقية منازل العيسوية.

يريد الاحتلال من أهالي العيسوية أن يكونوا تحت رحمة جنوده، والذين لا يتوقفون عن إمطار منازلهم بالغاز المسيل للدموع، والتنكيل بالفتية والنساء والمسنين، وإرغامهم على رفع ملابسهم لتفتيشهم، للسماح لهم باجتياز مدخل بلدتهم المغلق بمكعبات الإسمنت.

يروي نجل المسنّة، كريم درويش، لـ"العربي الجديد"، تفاصيل ما تعرضت له والدته، واصفاً التعب الشديد الذي بدا عليها، منتصف ليل الأحد، إثر اقتحام قوات الاحتلال البلدة، وإطلاق قنابل الغاز والصوت نحو المنازل: "بدأت والدتي تشعر بضيق شديد في التنفس، سارعنا بنقلها إلى مستشفى هداسا القريب، ولدى وصولي إلى الحاجز، رفض الجندي السماح لنا بالمرور، مشهراً سلاحه نحوي قبل أن يطلب منّي الخروج من السيارة"، يقول كريم.

وعلى الرغم من إبلاغ كريم الجندي أنّ والدته مريضة ويريد نقلها إلى المستشفى، وبعد جدال وصراخ مع الجنود، تعمّدوا خلاله تأخيرهما عن اجتياز الحاجز، ثم سمحوا لهما بالمرور، لكن بعد فوات الأوان، فما إن وصلا قسم الطوارئ حتى توقّفت والدته عن التنفس، فأبلغ الأطباء كريم بوفاتها. وينفي كريم رواية شرطة الاحتلال التي حاولت التنصّل مما جرى، موضحاً أنها "لم تعان من أي مرض، بل إن الدقائق التي عرقلوا مرورنا فيها، كانت كافية للقضاء على والدتي، التي كانت بحاجة ماسة للعلاج"، محمّلاً قوات الاحتلال كامل المسؤولية.

كانت بلدة العيسوية عند ساعات فجر يوم الإثنين، مكبّلة بالحواجز ومكعبات الإسمنت، وأُغلق جميع مداخلها، ما دفع مئات التلاميذ والعمال للاصطفاف في طوابير طويلة، امتدت من مدخل البلدة الغربي حتى وسطها، مشهد أعاد إلى ذاكرة أهالي العيسوية أسوأ سنوات المواجهة مع الاحتلال في الانتفاضة الأولى.

"لكن ما يحدث هذه الأيام لم يسبق له مثيل"، يقول أحد أعضاء لجنة المتابعة للدفاع عن أراضي العيسيوية، محمد أبو الحمص لـ"العربي الجديد". ويوضح أبو الحمص أنّ بلدة العيسوية تعاني حصاراً خانقاً، بعد إغلاق الاحتلال ثلاثة مداخل، واصفاً الحصار بـ"عقاب جماعي ستكون تداعياته خطيرة ليس على السكان فحسب، بل على الاحتلال الذي حوّل الأحياء والبلدات في القدس إلى كانتونات وغيتوات".

اقرأ أيضاً: أهالي العيسوية يتحدّون الحصار الإسرائيلي بالإضراب العام

تكرّر المشهد في اليوم ذاته (الإثنين)، على مدخل بلدة حزما شمال شرق القدس، وعند مدخل بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، واللذين حوصرا بعشرات مكعبات الإسمنت، ونقاط التفتيش، في حين ازدحم الطريق من قرية جبع المتاخمة لحزما وحتى بلدة قلنديا بآلاف المركبات، فيما أحيطت القنصليتان الأميركية والبريطانية في القدس بمكعبات إسمنتية، حيث وقف جنود الاحتلال ينكّلون بالفلسطينيين متعمدين إعاقة حركتهم والتنكيل بالتلاميذ في ذهابهم وإيابهم.

كذلك أغلقت شرطة الاحتلال، وفق مركز وادي حلوة المقدسي، مدخل وادي الربابة وحي الثوري بالمكعبات الإسمنتية، ووضعت مكعبات كنقاط تفتيش في حي وادي حلوة ورأس العامود، وحي جبل المكبر المحاط بجزء من جدار الفصل العنصري، فصله عن مستوطنة "أومون هنتسيف" المقامة على أراضيهم، وفصل شوارعاً في الحي ذاته عن بعضها، وبات المواطنون المقدسيون فيه، كما هو الحال في حي الطور، يعيشون بين جدارين في مدينة يدّعي المحتلون أنّها موحّدة.

يعكس المشهد على الأرض واقعاً مغايراً من التقسيم والتجزئة احتج عليه أكثر أركان الحكومة الإسرائيلية تطرفاً، أمثال وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان ووزير التربية والتعليم الإسرائيلي، نفتالي بينت، والذين رأوا في الجدار حول المكبر وفي الحواجز وعشرات نقاط التفتيش تقسيماً للقدس، يشوّه ما زعموا أنها مدينة الشعب اليهودي الموحّدة.

وعلى الرغم ممّا قيل عن احتجاجات بين وزراء حكومة نتنياهو، فقد صادقت الأخيرة على مخطط فصل آخر يحوّل بلدة العيسوية إلى جيب مغلق تماماً ومفصول عن القدس، إذ تُحاط هذه البلدة التي تعدّ واحدة من أبرز بؤر المقاومة والمواجهة بجدار من الإسمنت بارتفاع تسعة أمتار وبطول كيلومتر ونصف الكيلومتر، مثل جدار الفصل القائم، حيث يقام هذا الجدار على الأطراف المرتفعة في العيسوية من الجانب الشمال الشرقي، أما في الجانب الغربي المجاور للتلة الفرنسية، فتقام عوائق عديدة من مكعبات الإسمنت بطول كيلومترين وجدار شائك وإنارة.

تحمل هذه الخطوة آثاراً خطيرة، إذ إنّ إحاطة العيسوية بجدار وبإعاقات متنقّلة تعزلها بصورة تامة على الرغم من وقوعها داخل جدار الفصل، يُخيف الفلسطينيين، وقد تحوّلت مدينتهم المقدسة إلى أحياء معزولة عن بعضها البعض ومقسّمة بأكثر من 30 حاجزاً وجداراً ونقاط تفتيش، من أن يصبح هذا الواقع دائماً، مع ما يترتب على ذلك من تهويد لمدينتهم القديمة واستيلاء تدريجي على مقدساتها وعقاراتها، كما حدث أوّل من أمس الإثنين، إذ استولت جمعيات استيطانية بحماية من شرطة الاحتلال على عقارين في بلدة سلوان.

وباتت القدس خاضعة لأوامر المستوطنين في قتل الأطفال والفتية الفلسطينيين، فيما يتمتعون هم بكامل حرية التجوّل في البلدة القديمة ويصعّدون اقتحاماتهم المسجد الأقصى، ويتعرضون لأصحاب المحال التجارية، والذين باتوا هدفاً مفضّلاً للإسرائيليين، إذ يحرّض الاحتلال عليهم سياسياً، منذ العملية التي نفّذها الشاب مهند الحلبي مطلع الشهر الحالي، بدعوى عدم تقديمهم المساعدة لمستوطنيْن قُتلا في هجوم الحلبي، وبات هؤلاء التجار وغيرهم في أسواق المدينة هدفاً آخر للتنكيل من قبل بلدية الاحتلال ودوائرها الضريبية المختلفة.

دفع هذا القرار جمعية حقوق المواطن إلى اعتبار "قرار الحكومة الإسرائيلية الذي يكمن في إغلاق مداخل الأحياء الفلسطينية في القدس ووضع حواجز إسمنتية وحواجز تفتيش وفحص مشددة، عقاباً جماعياً مرفوضاً وغير قانوني، ويحوّل حياة 350 ألف فلسطيني إلى جحيم".

اقرأ أيضاً الصحافة الإسرائيلية: "كيد نتنياهو يرتد عليه... إنه يقسّم القدس"