المقتولات

05 يونيو 2015

وقفة نسوية ضد جرائم الشرف في رام الله (21مارس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

نسيت حقاً من قال لي تلك الجملة الأثيرة إلى قلبي، العالقة في المكان الذي لا يؤثر فيه زمن، ولا يقوى عليه صدأ، وأنا في طفولتي التي شهدت جرائم قتل نُسبت إلى الشرف، وهي أبعد ما تكون عنه. ربما جدتي، ولم لا فلم يكن أحدٌ غيرها قادراً القدرة العجيبة على إمساك الخيال من روحه، والتحليق به في فضاءات من العجائب والغرائب، وهي التي دفعتني إلى البحث في شبابي عمّا يشبه روايتها قصص ألف ليلة وليلة، فلم أجد ما يماثل ما أضافته من روحها وخيالها إلى القصص المتخيلة، فشحنتها بشغفها ودفق عواطفها، وهي المرأة القوية كسنديانةٍ، لا يجرؤ ريحٌ على العبث بجذعها، ولا أغصانها.

قالت جدتي: كلما قُتلت امرأةٌ عاشقة، أو شبّه لها، أو للناس، أنها عاشقة، فإن أبواب السماء تُغلق أمام الساعين إلى الرحمة، ويهبط الناس درجة درجة على سلم الجحيم المؤدية إلى هاويةٍ بلا قرار، مؤدية إلى نيران تفتح أفواهها، فتأكل كلّ أخضر في أرواحنا، فنغدو كمن أضاع السبيل في الدنيا، وليس أمامه في الآخرة إلاّ جحيم، وقودها الناس والحجارة.

وأنا أقرأ عن النساء المقتولات في لبنان أخيراً، سارة الأمين مثلاً، والتي قتلها زوجها، مما حرّك مجموعات المجتمع اللبناني لمحاولة الحد من هذه الجرائم، أتذكر حكايات المخيم الفلسطيني التي شهدتها في طفولتي وشبابي، وأتذكر النساء المقتولات على أيدي أزواجهن أو أشقائهن أو أبنائهن أو أمهاتهن أحياناً. كنا نتساءل، في بدايات تشكل وعينا اليساري في نهاية الستينيات، والذي تبلور مع بروز حركة المقاومة الفلسطينية قوة التفَّ حولها المجتمع الفلسطيني، وخصوصاً بعد اتفاقية القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1969 التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية، بإشراف جمال عبد الناصر، وأعطت بنودها، في ما أعطت، المنظمة الصلاحية لإدارة شؤون المخيمات الداخلية، من غير أي تدخل للدولة اللبنانية في ذلك.

كانت المشكلات الاجتماعية في المخيم، والتي قد تؤدي إلى جرائم، أو اعتداءات عنيفة، من صلاحية "الكفاح المسلح"، وما كان يسمى القضاء الثوري، وكانت الجرائم المسماة جرائم الشرف تنظر فيها تلك الهيئات. هذا إذا تم تسليم الجاني إليها الذي ينجو عادة بفعلته، لأنه ينتمي إلى فصيل قوي، أو منافس لحركة فتح التي كانت التنظيم الأكبر في منظمة التحرير. لم تضع المنظمة، في تلك الفترة المتميزة بالنهوض الوطني والحراك الثوري على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية، أية قوانين متقدمة عمّا هو سائد في أكثر الدول العربية تخلفاً بقوانينها، في ما يتعلق بجرائم الشرف. حتى الفصائل اليسارية، التي كانت تزعم تميزها عن حركة فتح بإيديولوجيتها الماركسية، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، الرافعة شعار تحرر المرأة، واحترام كينونتها ووجودها، لم تتقدم قيد أنملة في سياق تطبيقات المفاهيم التقدمية في هذا السياق. أذكر، في مرحلة ما بين عامي 1969 و1976، شهدتُ أكثر من ست جرائم قتل لنساء برشاشات النضال ضد العدو الإسرائيلي، ومن أعضاء في التنظيمات اليسارية وفتح بسبب مشكلات تتعلق بـ "الشرف". تمت تغطية تلك الجرائم من اليسار، تحت شعار احترام عادات شعبنا وتقاليده، وا
لحرص على عدم إحداث صدمة للمجتمع، قد تنفره من الفكر الاشتراكي المطروح حديثاً، تماماً كمنهج العلاقة مع الشعب من الماوية الصينية، ابنة الستالينية الوفية. لم تستطع، لا فصائل اليسار المسلح الفلسطيني، ولا حركة فتح، أن تمثل أنموذجاً رادعاً للتخلف الاجتماعي، المتأثر بحرفية النصوص الدينية التي تدعو إلى قتل الزانية رجماً، ولم تُقدم أية أدبيات لهذه الفصائل على المناقشة الصادمة، فبقيت أسيرة تخلفها، مما جعل التساؤل عمّا وصلنا إليه من تخلف وهيمنة للفكر الديني سؤالاً يتسم بالسذاجة والبله.

8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.